التخطي إلى المحتوى الرئيسي

قصيدة مدارية


قصيدة مدارية




ملاحظة: الموسيقى جزء من القصة

-السلام والراحة-

تفتح الباب، تنير الأضواء في البيت الصغير الدافئ، تدخل الجدة ممتلئة القد تربط ظهرها ورقبتها بدعامة وتعتمر عصابة رأس، يتبعها حفيدها ذو الثمان سنوات بشعر بني وعينين بندقيتين وبشرة عسلية وأرجل قصيرة، تجلس على الأرض وتمدد رجليها الضخمتين والملفوفتين بقطع من القماش لتقليل آلامها، تخرج النقود من عصابتها، تقول آمرة "عادل، احضر لي كأس ماء" وتعد حصيلة اليوم بسعادة.

يعلم عادل إنه حين يعود سيجد جدته قد أنهت عد النقود كعادتها وقد حضرت له يوميته، لذلك هو يحضر الماء بسعادة أيضاً.

تقول الجدة ما أن تشرب الماء "عادل، أحضر لي أدواتي، أريد إعداد سلال وحقائب الغد"

فيقول بفتور "ومجدداً لن تسمحي لي بالعمل معكِ؟"

الجدة "لديك مدرسة غداً… الجمعة، الجمعة"

تهب رياح عاتية بشكل فجائي، الأصوات مهيبة ومخيفة.

يقفز عادل إلى جانب جدته وقد اصفر وجهه وبهتت ملامحه "جدتي لن أذهب إلى المدرسة، إنها بعيدة وستمطر، ما رأيك أن أعمل معك؟ ألا تحتاجين لمساعدة؟"

الجدة "يا روح جدتك بأي وجه أقابل خالقي ووالديك؟"

إنه حوار كل صباح مبكر، وكل مساء بعد إغلاق البسطة والعودة إلى المنزل، كلاهما يعرف ماذا سيقول الآخر كأنهما يؤديان عرضاً مسرحياً موسيقياً.

يدق الباب…

ينظر عادل إلى عيني جدته، ثم ينهض ليفتح الباب، تمسك الجدة ساعده وتثبته في مكانه، تجتاز الحديقة الصغيرة، تفتح الباب هي، خلف الباب رجل يحمل طفلة، الطفلة هلعة تدفن رأسها في كتفه يغطيها بذراعيه،كلاهما منقوعان بالمطر، يقول مرتجفاً "مرحباً… لا فنادق مفتوحة على الجزيرة، والجو فجأة أصبح…"

"أدخل… أدخل، لنشرب الشاي ونتحدث، لن تجد فنادق في هذا الوقت من العام"

يترك ابنته لتمشي بحرية عند باب المدخل، يخلع حذائه وجواربه ومعطفه المبتل ويدخل، تذهب الجدة لإحضار الشاي، يبقى واقفاً في مكانه وقد التصقت بساقه الطفلة، يحدق عادل به وبالطفلة الهادئة، يبدو رجلاً بائساً أذبل الحزن والقلق عينيه، وتبدو طفلة كئيبة.

تأتي الجدة بكوبين من شراب الليمون والعسل الساخن، تدعوه برفق للجلوس، وتقول "لقد وصلتَ إلى جزيرة آمنة، لا تقلق"

----

موسيقى مصاحبة

يقف الأب مراقباً حاملاً دفتراً صغيراً وقلماً بينما تجلس الجدة على كرسي في قاعة ضخمة عالية السقف بجدران خشبية اللون ذات باب زجاجي كبير يرى المحيط من بعيد، القاعة شبه فارغة فيما عدا لوحات معلقة وطاولة وهاتف، يتحرك العمال جيئة وذهاباً حاملين صناديق ثقيلة، أرائك، أسرّة، خزانات.

تأتي سيدة تقدم لهما عصير النعناع والليمون البارد، يأخذه، يستند على الحائط، يبتسم مجيلاً بناظريه في أرجاء المكان، ثم تدمع عيناه، يغمضهما.

تقول الجدة "تبقى لكما الأفضل على ظهر الجزيرة"

الأب "أتتوقعين؟"

"حين رأيتكما قبل عام في تلك الليلة العاصفة، لم أتوقع إن كل هذا سيحدث"

يُفتح الباب الزجاجي بتأثير ثقل جسدي الطفلين الراكضين المبتلين بالعرق والملفوحة جلودهما بأشعة الشمس كخبز أخرج من الفرن للتو، يلهثان، ثم يستمران بالركض بعد إلقاء تحية سريعة، أصوات صراخهما وضحكاتهما يتردد صداها في القاعة الفارغة، يضحك الأب، تضحك الجدة.

يقول الأب برأفة "إنه من أجل نُوار… كل شيء من أجل هذه الطفلة"

تراقب الجدة حفيدها بحسرة "هكذا هو الأمر دائماً للأبوين"

"الأسبوع القادم سيكون ركنك جاهزاً، تجهزي للانتقال"

"أي ركن؟"

"هنا في الفندق، ألا تريدين إرسال عادل للجامعة؟"

"أريد… لكن هذا كثير"

"ستكونين أقرب للسياح هنا، وستتمكنين من إرساله للجامعة"

تبكي "أنا ممتنة أيها السيد، أنا ممتنة"

"أبو نُوار، ما هذه "السيد" الجديدة؟… لا يمكنني رد ألطافك، لا بهذا الركن ولا بكل الأموال، ما قدمته لنا أثمن من أن يقدر"

تركض نُوار إلى الجدة ممتعضة، شعرها مبعثر، تنادي "جدتي، عادل دمر شعري"

تضعها الجدة على حجرها، تقبل خديها الأحمرين، وتصفف شعرها بيدها، ثم تقول "سأوبخ عادل لاحقاً، أما الآن سأعيد تصفيف شعرك لإغاظته"


-توهج-

موسيقى مصاحبة

صباحاً والشمس لم تستيقظ من النوم تماماً بعد، تتكئ نُوار على باب منزل الجدة متثائبة، تلعب بشعرها القصير، تضرب الأرض بقدمها دون أن تطرق الباب لأن والدها أوصاها ألا تزعج الجدة.

كلما مر جار وحياها أخذ من صبرها قليلاً معه، ثم نظرت إلى ظلها فرأته تحرك، والشمس استيقظت ووقفت على خديها، عزمت أن تطرق الباب بكل قوتها، فإذا بعادل يفتحه بغتة، تتعثر، تنظر إلى عيناه ليساعدها، يتركها تسقط في داخل المنزل، ويمضي تاركاً الباب مفتوحاً.

تنهض نُوار، تغلق الباب بإحكام، وتركض خلف عادل، تنفض ملابسها وهي تسير بتعرج بسبب كدمات ساقيها وتخدرهما، تمسك بحقيبتها، وتتبعه، ثم تتمتم "سنتأخر عن المدرسة ثانيةً"

"سكنتم بجانبنا لأوصلكِ للمدرسة، أنا أعرف هذه الجزيرة أكثر منكِ، وأنا أكبر منكِ بأربع سنوات أيتها الطفلة، كم مرة علي إعادة هذا الكلام حتى تفهمين؟"

تطأطئ رأسها وتسير بصمت.

----

كانت أبواب المدرسة مغلقة حين وصلا، أشار لها عادل أن تتبعه، دخل بثقة وقال للحارس "سيدي لقد تأخرنا، افتح لنا الباب" فذهب الحارس للداخل لإبلاغ الإدارة، نظر عادل لنُوار بثقة "أنظري"

جاء أستاذ طويل وضخم وقال لهما بلطف "ادخلا أحبائي"

عادل موجهاً ناظريه إلى نُوار "أرأيتِ؟"

ما إن دخلا حتى جرهما الأستاذ من حقيبتهما وقال "لن تخرجا قبل أن يأتي أولياء أموركما… كل يوم يزيد تأخركما قليلاً… وهذه المرة انتهت الحصة الأولى"

لم تحتمل نُوار وانفجرت بالبكاء.

----

موسيقى مصاحبة


الشمس أعلى المحيط في الجهة المقابلة للشاطئ، يسيران باتجاه الشمس نحو الفندق، تنظر نُوار باتجاه النور البرتقالي، تختفي ابتسامتها، تغطي عينيها بساعدها، تتباطأ خطاها، تتوقف، يمر بعض الوقت قبل أن يلاحظ عادل إن نُوار متكورة على نفسها على الأرض، يصرخ "هيا انهضي! لماذا تبكين كالأطفال؟ ألم تقولي إنكِ كبيرة في العاشرة ولن تبكي مجدداً، علينا اللحاق بالحافلة والمساعدة في العمل"

قلبها يتمزق، الأشجار تبدو مرعبة تهددها بالسقوط فوقها، لا تعلم ما الذي تشعر به، لكنها متألمة ألماً مبرحاً، ألماً حقيقي، ألماً لا يُلمس ولا يُوصف، ألماً يمنعها من الحركة.

وقف عادل يراقبها مرتبكاً، يفكر بتصرفاته هذا اليوم، يجد وجودها حملاً ثقيلاً وإزعاجاً كإزعاج الراديو الذي لا يستقبل الإشارة واضحة، لكن ربما قد بالغ اليوم، بماذا تحديداً لا يعلم، لكنه بالغ، يتقهقر بضع خطوات، ويقول بصوت متهدج "لنذهب إلى الشاطئ"

لا تتجاوب

"لنذهب إلى الشاطئ، لن نعمل ولن نحل الواجبات اليوم"

ترفع رأسها كما تتفتح وردة... بتأن وجمال.

"هل هذا ممكن؟"

يسحبها من يدها ويركضان ضاحكين نحو المحيط، الدموع في عيني نُوار لامعة، تقول متعجبة "متى أصبحت طويلاً وقوياً؟"

عادل يضحك بعذوبة وتغلق عينيه تماماً ويتطاير شعره البني مع النسائم "جدتي قالت إنني مثل الخيزران"

"أنت مثل شعري الطويل"

"الطويل بلا فائدة؟"

اشتاطت غضباً وركلته وتركت يده ومسحت يدها بثوبها بقرف وركضت مبتعدة، تفاجأ، لم يعتقد إن ما قاله سيئاً، أطلق تنهيدة، ومشى مرتخي الكتفين محدب الظهر يجر خطاه متثاقلاً خلفها لأنه بطريقة ما مسؤول عما يعتقد إنه الكائن الأكثر غرابة.



-ساعات الصِبا-

موسيقى مصاحبة


حل الليل، أوقدت أضواء الشوارع، حاملة حقيبة المدرسة على ظهرها تودع نُوار والدها بقبلة وعناق يحمل بعض المسؤوليات من على كتفيها، تودع العم نبيل مسؤول الخدم في الفندق، وتسير مسرعة للحاق بالحافلة لتعتني بالجدة المريضة.


تفتح باب منزل الجدة بمفتاحها حاملة فواكه وبعض من احتياجات المنزل، تخلع حذائها، توقد مصابيح الصالة، ترمي حقيبتها، وتدخل المطبخ على عجالة،

توقد الضوء، تضع أكياس التسوق، تخرج السمك والخضار من الثلاجة، تغسل الصحون، تعد الرز وطبق السمك بالخضار وتضعه على النار، تغلي ماء، ترتب ما اشترته في البراد والخزانات، يغلي الماء، تسكبه، تضع ظرف شاي اليانسون والليمون، وتجلس في المطبخ تراقب الأشجار لدقائق في هدوء.

تسمع سُعال الجدة، تترك شايها، وتذهب إلى الجدة، المصابيح مضاءة، والجدة مستلقية تقرأ كتاباً، تقول حين ترى نُوار وقد لمع بريق في عينيها "لماذا لم تحييني كل هذه المدة؟"

تقبلها نُوار، وتجلس على السرير بجانب رأسها قائلة "ظننتُ إنك نائمة، فذهبت لإعداد العشاء"

"إنني أتعبك وأبيك معي، كان على عادل أن يفعل هذا"

"وكان على أمي أن تعتني بي طيلة العشر سنوات الماضية، أبي يقول إننا عائلة واحدة"

"وهو كذلك" شدت الجدة على يدها.

نظرت الجدة إلى الساعة "إنها العاشرة، لمَ لم يعد عادل؟ اتصلي به، لنتعشى معاً"

"جدتي عادل مشغول بالدراسة لامتحان القبول" ثم أردفت مرخية ملامح وجهها "لنتعشى أنا وأنتِ وحدنا"

ابتسمت الجدة "سأحب ذلك… مع إنه حفيدي، لكن البقاء معكِ أحلى"

----

تعين الجدة على تناول العشاء، ثم تعينها على الذهاب إلى الحمام والتحضر للنوم، ثم تذهب لغسل الصحون مدندنة أنغام لا تعلم أين قد مرت عليها سابقاً، تنفض يديها من الماء، ترى الساعة، إنها الحادية عشر والنصف، لم يعد عادل.

عند الباب الخارجي، في الشارع المنير بضوء المنازل، وأضواء البقالة تقف وتمشي، تجلس القرفصاء أو تستند إلى جدران منزليهما.

تمر نصف ساعة، تقل الأضواء المنبعثة من المنازل ويختفي ضوء البقالة.

تمر نصف ساعة أخرى، جالسة القرفصاء منحنية الرأس تقاوم النوم، يسقط عليها صراخ عادل "لماذا تجلسين في الشارع؟"

تنهض مترنحة تحاول الحفاظ على استقامتها بالرغم من رجليها الخدرة، تنفض ملابسها، وتفتح عينيها على سعتهما، وتكبت تثاؤباً، نبضات قلبها تتسارع خوفاً

"لا تصرخ أرجوك، الجيران سيستيقظون"

"ما دمتِ تعلمين إن الوقت متأخر، لماذا أنتَ هنا ولستِ في سريرك؟" رمى كتبه، وجرها من أذنها.

حدجته بنظرة حادة ونزلت دموعها "لا تصرخ… أكرهك"

"إن كنتِ تكرهيني لماذا تنتظريني؟"

"أخاف… أخاف أن تختفي مثل أمي" سحبت أذنها من بين يديه، وتركته لتذهب إلى منزلها.

يلملم كتبه، وينظر لها بندم "تعالي نامي عندنا هذه الليلة، أبوك سيبقى في الفندق"

حانقة "أعلم، ولا أريد... أحضر لي حقيبتي وسترتي وأرمها من فوق الباب كما تفعل دائماً"

"أنا آسف"

أشاحت بيدها وقد سكنت أساريرها قليلاً "أنت متوتر وعصبي بسبب الدراسة، ركز في دراستك، عليك أن تنجح"

----


يذهب عادل إلى الفندق لمقابلة أبو نُوار للحديث عن العمل، يمر على الركن المخصص لجدته لرؤية طريقة إدارة البائعة الجديدة، يجد نُوار جالسة في الركن تتحدث مع الزبائن وتضحك بابتهاج، يغلي دمه سامعاً صوت فقاقيع الغليان تنفجر في أذنه، إنه يشمئز من طبعها الوردي وميلها للمساعدة، لكنه يكبح نفسه حين يتذكر كلام جدته "إنها تعتني بي أكثر مما اعتنيت بي في حياتك"

يقترب ببطء، يحيها على مضض، تطلب من الزائرين أن يشاهدوا البضاعة بينما تعود، يشير لها ألا تترك موقعها، ويدخل هو خلف القاطع ليبيع معها.

"أين العاملة الجديدة؟" هامساً

"لا تغضب… ابنتها مريضة فتركتها تذهب"

"لن أغضب، لستُ سيء التقدير لهذا الحد"

تجيب أحد الزبائن "بـ 500"

ثم تردف "أنا أفضل منها على أية حال، يحبني الزبائن أكثر" تعيد شعرها الطويل خلف أذنيها.

يقرصها من خدها ممازحاً "يحبك الجميع، أحسدك"

تهمس في أذنه "لكنني لا أهتم، أحب أبي والجدة وأنت فقط"

يسعل بقوة، ينحبس الدم في وجهه، تركض لإحضار الماء متعجبة، يشرب الماء ويستعيد وجهه المستوي كورقة، ويقول "اذهبي للدراسة أو اللعب"

"سأساعدك، حتى لا تشعر بالملل، صحيح إن العمل ليس كثيراً كما كان عندما كانت الجدة تصنع كل شيء لكن…" نظرت إلى عينيه، صمت كل شيء في أذن عادل وتوقف الزمن، وسَمع جملتها كتعويذة سحرية "أنت لا تستطيع تدبير أمورك بدوني"

جاء زبون "ما ثمن هذا الشمعدان؟"

أسرعت نُوار للرد "650 سيدي"

الزبون "سآخذه"

"ستنير لياليك المظلمة" تلف الشمعدان بسلاسة "زرنا مجدداً"

"بالتأكيد"

تستدير نحو عادل وتغمز ضاحكة "أرأيت؟"

يضحك "أنتِ محتالة… ابقي ابقي"

تقترب منه بحذر على أطراف أصابعها "درسني رياضيات"

يدفع وجهها "اذهبي بعيداً"

تتمسك بكمه "أرجوك… أرجوك"

"أتيت لأستريح من الدراسة"

نظر إلى عينيها المتوسلتين "حسناً… أحضري كتابك"



-عفريت على الباب-


يزور أبو نُوار الجدة في صبيحة يوم الثلاثاء بشكل مفاجئ، يعتذر منها للقدوم بوقت غير مناسب وبدون أي إشعار مسبق، يرفض أن تذهب الجدة لإحضار أي طعام أو شراب، ويبدأ دون مقدمة "لنزوجهما"

----

يتصل عادل بنُوار عصراً، يطلب منها اللقاء حيث كانا يلعبان قرب المحيط، تترك حديثاً كانت تجريه مع أحد زبائن الفندق وتلبي الطلب، حالما تصل يسألها "هل أنتِ من خططتِ لزواجنا؟"

"أي زواج؟"

"والدك طلب أن نتزوج"

"أنا في السادسة عشر، لن أتزوجك، ولن أتزوج غيرك"

يضرب الرمل بساقه "إذن ماذا؟ ما الذي يحدث؟"

"لا أعلم، أريد الذهاب إلى المدرسة"

تفترش الأرض، تراقب الطيور، تتحرك كرتي عينيها ككرة تنس الطاولة، ثم تغمض عينيها وتصيخ السمع إلى صوت الأمواج، ثم فجأة تغفو بأمان وهي جالسة متناسية أي قلق، يرمي عادل حقيبة ظهره قالباً عينيه للأعلى، يجلس بجانبها مستلماً يراقب الأمواج بدوره، يميل رأسها للأمام، يضع حقيبته على ساقها كاظماً غيظه، ويقول "يا لبرودة دمك!"

----

يدعو أبو نُوار ابنته على العشاء في مطعم أنيق، تنبهر بالأجواء الحالمة الرومانسية لكنها سرعان ما تخفي انبهارها قائلة "المطعم في فندقنا أجمل"

"يمكننا أن نغير بين حين وآخر… كما إنني أرغب في إخبارك بأمر ربما عرفت القليل عنه"

"هل يمكنكَ ألا تخبرني؟"

"لا يمكن، غداً سيحدث الأمر… بالمقابل سأخبركِ بكل شيء بالتفصيل"


-مصاريع الأيام الجديدة-

موسيقى مصاحبة


خرجت نُوار من مدرسة البنات التي ترتادها فوجدت عادل مستنداً على شجرة قبالة المدرسة، بائساً مبعثر الشعر يرتدي خفاً وبنطيلاً* وقميصاً مكرمشاً، يحدق بالأرض بتمعن، تحاول تفاديه والعودة قبل أن يراها، فيناديها بأعلى صوته "أين تذهبين" تدير وجهها ذاهلة "يا زو…"

تصرخ "اصمت" وتركض نحوه، وتركله في بطنه، ينظر لها متصنعاً المسكنة "كنتُ أناديك يا زَوزَو، ما بكِ؟"

"لا أحد يعلم هنا بالأمر، سأمزقك إلى أشلاء إن أتيت مجدداً"

يحيط رقبتها بذراعه "لقد فشلتُ مجدداً بالدخول إلى الجامعة"

"تبدو كفاشل فعلاً" تدفعه "ابتعد عني يا صاح"

"فشلت في الدخول إلى جامعة العاصمة، كثر هي الجامعات التي تقبلني عداها"

"لا يهم"

يمسكها من شعرها الطويل الغالي على قلبها "فلتلعبي معي اليوم، أنا حزين حقاً"

"أنت تهدر عمرك"

"زوجتي… أرجوك فلتلعبي معي"

"لو سمعك والدي لقتلك… لكن" تحرر شعرها وتدور ثلاث مرات حوله متفحصة شكله البائس "لنلعب، أنا فشلتُ أيضاً في الكيمياء"

"الكيمياء سهلة وجميلة"

تفتح كفيها غير مكترثة "ساعدني إذن!"

"والدك يمنعنا من اللقاءات الطويلة كما تعلمين بموجب العقد"

"لكننا نلتقي الآن… سأدفع لك"

"حسناً، وقتي كله لك"




*(بنطال نصفي قصير)

----

يقطعان المتاجر واحداً تلو الآخر في مركز التسوق، يجلس عادل خارجاً بينما تتبضع نُوار،

تتزايد الأكياس التي يحملانها،

يتذمر عادل في كل خطوة،

تمر ساعة واثنين وهما لم يكملا قصد متاجر طابق واحد، يقول عادل "أنا متعب، سأنتظرك في المقهى، تسوقي وتعالي"

"أريد رأيك، سأشتري ملابس لحفل عيد ميلاد صديقتي"

"ألم تكوني هنا لشراء هدية لأبيك؟"

بطبيعية دون أي تردد "نعم، أنت محق، أنا هنا لكلاهما"

منذهل "أنتِ تزدادين قوة وجرأة كلما كبرتِ"

"لأنني لم أعد خائفة منك… أنت طيب" تحيط رقبته بذراعها "فعلتها، لقد أصبحتُ طويلة أخيراً"

بجدية "لكنني لستُ طيباً، لا أحب الطيبة، لنقل إنني أكرهك لأنكِ طيبة ومثالية ويحبكِ كُثر"

"سأبكي، وسأقول إنك ناضج يتنمر على قاصرة ويحثها على السرقة"

"أنا لا أمزح"

"وأنا يجب أن أشتري ما أريد… اذهب إلى المقهى" تركت كل أكياسها في يده، وحيته مغادرة.

اختفت خلف عمود، غطت عينيها، وسالت الدموع.

----

دخل عادل إلى منزل نُوار بمفتاحه الذي يمتلكه لإصلاح أنابيب مياه المطبخ، كان يعتقد إن المنزل فارغ فلم يطرق الباب، يفتح الباب الداخلي فيصطدم بنُوار التي تهيأت للذهاب إلى حفل عيد مولد صديقتها، اتسعت الأحداق، لم ينبس أحداً منهما ببنت شفة.

كان عادل مندهشاً، إذ لم تكن نُوار التي يعهدها، رائحتها زكية، شعرها لامع ومصفف، كتفيها يعكسان ضوء الشمس، فترت شفتاه عن ابتسامة، واضطربت دقات قلبها، كانت قريبة منه، تشعر بأنها ناضجة جداً، إنها امرأة وليس فتاة، وإنها مغرمة به، ستعترف بشعورها، ستخبره إنها له، ستحكي عن كل ما تخبئه، أما الآن أو ستفقد الشجاعة للأبد، ثم تتذكر

"لنقل إنني أكرهك لأنكِ طيبة ومثالية ويحبكِ كُثر"

تختنق، يؤلمها صدرها بقوة، ترتفع حرارة جسمها، فتقول كابحة نفسها:

"معذرة، علي الذهاب"

يفسح المجال "العفو، العفو… كنتُ أغلق الطريق"

ترتدي حذائها "لا عليك"

بنبرته الأخوية "تبدين جميلة، استمتعي بالحفلة، وارقصي كثيراً"

نازلت غصتها وقالت على مضض "شكراً، مع السلامة"


-اهتياج-

صوت مصاحب

تهز الرياح العاصفة النخيل والأشجار الباسقات بعنف، تقف نُوار بمواجهة المحيط، الأمواج تهجم عليها، توشك على افتراسها، تُقذَف كتل المياه على وجهها، الأمطار تغمرها… لكنها لا تتزحزح، تعوي كما الذئاب، تحاول اجتراء الألم من مصدره بصرخة، صرخاتها مكتومة، تضرب صدرها بأسى، تسير نحو الأمواج، نظراتها خالية، دموعها تتقاطر مع المطر، تهدأ حين تلمس الأمواج قدميها، تبتسم، تغمض عينيها،

يصرخ عادل من بعيد "نُوار، أجننتِ؟"

لا تجيبه، يركض نحوها، خطواته لا تسعفه، الرياح والأمطار والأمواج والأشجار احتشدوا لإعاقته، يرى المياه وقد علت ركبتيها وهي ما زالت تنزل إلى المحيط غير عابئة لما يحصل لها، تزل قدمه ويتعثر بحجارة، يصاب بجرح، يواصل السير حتى يصل، يعانقها من الظهر ويبكي قائلاً "نُوار، عليك أن تعيشي"

"اتركني" تستمر بالترديد بصوت ضعيف.

يحملها باكياً لخطورة مكانهما حتى يصل لأقرب مطعم مبني مغلق، يجلسها على كرسي، ويجلس على الأرض متربعاً مقابلاً لها.

ترتجف"هل كنتَ تعلم إن والدي مريضاً مرضاً مميتاً؟"

يمسك بيديها "أقسم لكِ كلا"

حادة اللهجة مزدرية موبخة "عادل... لقد زوجنا لأن مرضه استشرى في جسده… لأن أيام بقاءه تُعد…كيف لا تعلم وأنت كنتَ تلتقيه كثيراً"

منفعل يستجدي براءته "كنا نتحدث بأمور عامة حول مستقبلي وطيبتك"

"لا تحلف بما تكره، أنت كاذب... لقد أخبرني إنه زوجنا لأنه وجدنا مناسبين لبعضنا، ولكي لا تتشتت عائلتينا، أنا غبية وأقتنع بسهولة… أنت كيف اقتنعت؟"

"لا أعلم صدقيني، لا أعلم"

"وما فائدة علمكَ؟ لقد رحل… لن يعود، تجرع الويلات وحده ورحل" تغطي وجهها بيديها، يختلط صوت بكائها بصوت العاصفة، يسحب كرسياً ويجلس بجانبها، يضع رأسها على كتفه

"لم يعد لدي أحد... الحياة قاسية وثقيلة… هل هذه هي الحياة الطبيعية لهذا العمر؟"

"سيكون كل شيء بخير"

"لن يكون… لقد مات كل أسرتي"

----

يوم ممطر بارد رطب، يجلسان في صالة منزلها، يفصل بينهما عرض الصالة، معظم المصابيح مطفأة، لا طعام ولا مشروبات تتوسط الجلسة وتساعد على بدء الحديث، يمر الوقت على هذا الحال قبل أن تسأل "هل ظهرت نتائج امتحانك؟"

"لقد قُبلت"

دون أن تطرف "مبارك"

"هل أبقى؟"

"إنها المحاولة الثالثة"

ينظر إليها بعطف "لا يهم، إن أردتِ سأبقى"

"سأبيع هذا المنزل… سأقسم أوقاتي بين الفندق والمدرسة والجدة... لن تكون الجدة وحيدة"

"وأنتِ؟"

"السيد سليم يدير الفندق، لا داعي للقلق… أنا نعسانة، سأنام" استلقت على الأريكة

"لن أخرج، سأبقى"

"افعل ما تحب" غفت قبل أن يطرف.

----

موسيقى مصاحبة

تذهب معه إلى المطار لوداعه، وجهها عادت له بعض الحيوية، وقد تكفلت زينة الوجه بإعادة الباقي، يرتدي ملابساً اعتبرها مناسبة للمدينة، قميص أبيض وبنطال أسود وحذاء لامع حاملاً حقيبة ظهر وتحيطه ثلاث من حقائب السفر المطبوعة بأشكال أوراق النباتات والفواكه.

"اهتمي بجدتي وبنفسكِ" يمسح على رأسها "آسف لأنني لم أعتني بكما"

"بعد شهرين سأصبح في السابعة عشر، يفصلني عام على الرشد، أستطيع أن أعتني بنفسي والآخرين"

يبتسم بفخر "أعلم... منذ زمن بعيد... وأكثر مني حتى، أنتِ تربيتي" يشير لنفسه بكلتا يديه، يضرب على رأسه ويتحدث مستعجلاً

"آه! لا تنتظري أحداً في الشارع، اتصلي بي وأبلغيني بكل شيء حتى لو كان تافهاً، لا تجهدي نفسكِ لإسعاد الآخرين، حسناً؟"

هزت رأسها موافقة، قبّل جبينها، فصرخت "لا تفعل…أنا مراهقة ضيقة الأفق"

أدارت ظهرها مغادرة، لكنها سرعان ما استدارت تعلو على وجهها ابتسامة عريضة، وتلوح له بأقصى ما يمكن لذراعها أن يمتد.

يفتر نصف وجهه الأيمن عن ابتسامة ساخرة، ويهز رأسه "لا استقامة لموزة"، يتنهد، يردف هامساً "قلتُ ألا تجهدي نفسكِ لإسعاد الآخرين"



-دوران وتتابع-

موسيقى مصاحبة


سوف تزدري الراقصين على الحلبة وتتهمهم بالجنون حين تراقبهم من بعيد، لكن ما أن تسحبك يد إلى الحلبة حتى تنخرط مع الراقصين وتزدري الجالسين، ستصبح الحركة والتمايل هما العادي… هما الطبيعي... وهما الواجب.

تستيقظ نُوار عند الرابعة، تعد الفطور للجدة، تذهب إلى الفندق لتتناول فطورها مع طاقم الفندق وتنظم وتقرر ما عليها تنظيمه واتخاذ القرار بشأنه، تذهب إلى المدرسة، وعند الرابعة مساءً تجلس أمام المحيط تبكي لساعة أو اثنين، تعود بعدها إلى الفندق تتكلم مع السائحين والعاملين أو تدرس حتى الثامنة والنصف، ثم تتوجه إلى المنزل سيراً على الأقدام وهي متصلة بعادل يخبرها عن العاصمة وتتحدث هي عن قصص الفندق. في المنزل تجد الجدة قد أعدت طعام العشاء فيتناولانه مع عادل عبر اتصال مرئي.


زار عادل الجزيرة كلما أتيحت له الفرصة وكانت تنتظره كل مساء أمام الباب رغم توبيخه لها، وكان يصر أن تترك نُوار الفندق ورعاية الجدة وتتنزه معه، يزوران أماكن جديدة، وتتسوق ملابساً جميلة والعطور، كان يحولها إلى سائحة في موطنها، ثم تباعدت زياراته مرة كل شهر أو مرتين، ثم أصبحت مرة كل شهرين، مرة كل أربعة أشهر، مرة كل ستة أشهر ومعها قلت اتصالاته، تغير أسلوب كلامه وشكله أيضاً فأصبح مدنياً أنيقاً لا يشبههما، لم تعد نُوار تعرف كيف تحادثه بصدق وعفوية عن كل ما يدور في ذهنها، مرارةٌ في حنجرة نُوار كادت أن تسمها وتخنقها لكنها ابتسمت وقالت للجدة "الحياة في المدن سريعة ومزدحمة، ودراسته صعبة، وهو يعمل"

بدت الحياة مسالمة ورفيقة بالعائلة الصغيرة، تعايشت نُوار مع الظروف الجديدة، الأمور سارت بسلاسة حتى جاء وقت اختيار تخصصها الدراسي، اختارت معهد الإدارة المهني، أجرى عادل اتصالات طويلة وأمضى ليالي في الحديث حتى الصباح ليقنعها أن تدرس في العاصمة أو في أي مدينة كبيرة أو تدرس عبر الإنترنت إن كانت لا تريد مغادرة الجزيرة، أو لتدرس بأي تخصص من التخصصات الموجودة في الجزيرة، المهم أن تتعلم تعليماً جامعياً، وحين رفضت اتصل بجدته غاضباً وأخبرها أن تحرر نُوار من العبودية وتدعها تتعلم ما يفيدها قبل أن تتلف حياتها.

بدأت الدراسة في معهد الإدارة، أحبت ما تتعلمه، وراقها ما تضعه من جهود قليلة في التعلم ومناسبة جدول التعليم لجدولها، أحبت الأصدقاء الذين كانوا يعرفونها ويحترمونها ويأتون لقضاء وقت العصر في الفندق صيفاً، ويبيتون عندها شتاءً فيدرسون ويثرثرون حتى الفجر.

طبيعتها المضيافة، والمعوانة، والناضجة جعلت الأساتذة أيضاً يصبحون أصدقاءً لها ويساعدونها على التوسع وإدارة حملات سياحية أجبرتها على تعلم الإنجليزية بطلاقة، شغلت هذه المغامرات الجديدة حياتها، مثلما شُغل عادل بمغامراته مدنية الطابع، تلهفت نُوار لإخباره بما يحصل معها والاستماع لقصصه، وتثاقل هو من الرد على الهاتف، ومن الاستماع إلى أحاديثها المحدودة والقروية، وقال لها ذات مرة ممازحاً "أشعر بالضيق عندما أسمع قصص الجزيرة، كأنك تتحدثين برطوبة"

كانت نُوار مثيرة للإعجاب بطرق كثيرة، فازدهرت قصص عشاقها من زملاء الدراسة، ورؤساء الشركات، والسائحين الأجانب، لم يعلموا إنها متزوجة، وكانت تجاريهم بمزاح وتنهي الأمر بود ولطف كاسبة صداقتهم، علموا إن الحصول على إعجابها ليس بسهل، لكنهم علموا أيضاً إنها ليست بمتبجحة أو طائشة لتجرحهم لو اقتربوا منها وافصحوا بمشاعرهم، كانت سيدة الجزيرة الأبرز والأصغر سناً والأكثر تأثيراً.


دعت عادل إلى حفل تخرجها وفي نيتها إعلان زواجها لكنه نسي الأمر ولم يأتي.


مرضت الجدة مرضاً شديداً أقعدها في الفراش، وكان عليها مراجعة المستشفى مرتين أو ثلاثة في الأسبوع لذا اشترت نُوار سيارة وتعلمت القيادة لتسعف الجدة متى ما أحتاجت.

زارها عادل ليومين ورحل مستاءً عندما لم تقبل الجدة أن تأتي معه إلى العاصمة لتلقي العلاج، وقال للجدة جملة ظلت تتردد كالإعصار في جوف نُوار "كلكم مسحورون بتلك البليدة"

في إحدى تلك المرات التي هرعت نُوار لأخذ الجدة للمستشفى بعد الثانية عشر، نادتها الجدة بعد أن هدأت قليلاً واستعادت شيئاً من قوتها، وقالت "هل تعلمين لماذا زوجك والدك؟"

"لأنه كان مريضاً؟"

"لأنه خشى عليك من أمك، والدك كان طبيب أسنان ناجح، وقد حصل على إرث... قال إن أمك أرادت التلاعب بالأوراق وأخذ أمواله ورميه في السجن… أعتقد إنها محامية أو من عائلة محامين"

"أمي؟"

"خشي أن تكون الوصية عليك إن رحل" ربتت على كفها وأردفت "الآن أنتِ بالغة، انفصلي عنه"

مرتبكة "جدتي؟"

"لا تهدري حياتك الثمينة بالانتظار"

"تعلمين إذن؟"

بثقة وحنكة "علمتُ قبل أن تعلمي"

ضحكت نُوار خجلة، قبّلت رأس الجدة وكفيها.


-حين يُرمَد قوس قزح*-

موسيقى مصاحبة

ليل، أضواء شارع، طريق لا مشاة فيه، تركض نُوار بجانب أعمدة الضوء مطفأة العينين، متهدلة الشفاه، بشعر لم يغسل لثلاث أيام، وملابس تتراكب على بعضها بفوضوية، وأقدام حافية، لا تحمل معها سوى هاتف في يد وحذاء بحر في يد أخرى، تقطع عموداً بعد آخر، رن هاتفها، ظهر اسم "عادل"، تتباطأ خطاها حتى تتوقف،

تتحدث قبل أن يلقي التحية وبلهجة جافة


"كانت تريد رؤيتك… لكنك لم تَرُد.

سأقيم مراسيم جنازة الجدة في بيتها، تعال عندما تنتهي مشاغلك"


تغلق الهاتف قبل أن تسمع أي رد منه، تواصل المسير بأقدام مثقلة، تلوح المستشفى بيضاء عالية تغطي مساحة شاسعة، تنفجر باكية

"أخبرتني أن أخلد لنوم عميق هذه الليلة، ما معنى أن ترحلي قبل أن تصل الحافلة؟"


*حين يُحوَل قوس قزح إلى لون الرماد




-الظل الذي رحل-

موسيقى مصاحبة

كان في عمله مرتخٍ على كرسه يقلب صفحات تواصل الاجتماعي متهرباً من العمل حين رأى صورة فندق نُوار وإعلان للبيع، يقفز من الكرسي، يذهب لزاوية بعيدة يتصل بنُوار فلا ترد، مرة تلو وأخرى، لم يسبق لها أن تجاهلت اتصالاته، رآها للمرة الأخيرة في جنازة الجدة قبل ثلاثة أشهر، لم يتبادلا سوى الكلمات الضرورية، غرقه في حزنه وندمه جعلاه لا يقوى على التحدث مع الآخرين أو حتى التفكير بهم.

يحجز أقرب رحلة للجزيرة، يُشعِر مديره إنه لن يأتي إلى العمل للأسبوع القادم، ويخرج عند العاشرة تاركاً كل مهام عمله.

دارت في رأسه كل أنواع الأفكار، هل هي في خطر؟ هل ابتزها أو تلاعب بها أحد؟ هل تحتاج إلى مال؟ هل هي حية الآن؟ كانت الطائرة أبطأ بكثير من رغبته الملحة في أن يطأ أرض الجزيرة.

ظن إنه سيلاقيها ترحب به في المطار بابتسامة عريضة، لكنها لم تكن هناك، يخطو عادل بين الجموع حاملاً ذكريات وجهها الباسم وذراعها التي تمتد طويلاً عن اللقاء والوداع، يسمع صوتها في الحافلة بجانبه، يراها تنتظره أمام باب المنزل، يشم رائحة الطعام الذي تعده منبعثاً من المطبخ، يتذكر غضبها حين يعانقها أو يقبّل جبينها، وينهشه الندم حين تحضر صورتها في الجنازة مستاءة منه لا تجد كتفاً لتسند عليه رأسها المائل، من أمسك بيدها؟ من واساها؟ مع من تشاركت حملها؟ هل لديها أصدقاء أوفياء يستمعون لها؟ هل أثقلتها أحمال إدارة الفندق في عمرها الصغير؟ هل احتاجته وأخفت الأمر؟

الجزيرة موحشة ومظلمة... وحيدة وخانقة، هل شعرت بذلك أيضاً؟


أين هي؟ إلى أين رحلت؟ لا يعرف أحداً أخبارها، لا الجيران ولا العاملين في الفندق.

سيبقى طوال الأسبوع على الجزيرة، يريد أن يشعر بكل تلك السنوات التي مرت وهي تنتظر اتصالاً منه.


مستلقٍ على السرير رن هاتفه ، يظهر اسم "نُوار"، ينهض وقد أفاقت حواسه تماماً

"هل أنتِ بخير؟ بحق الراحلين أين كنتِ؟"

بصوت متحشرج "لقد غيرتُ هاتفي… آسفة"

"هل تبكين؟ هل خطفكِ أحدهم؟"

ينبعث صوت ضحكتها عبر صوت البكاء "أنا بخير، اشتقت لصوتك وبشدة فقط… أنتَ الذي لا تبدو بخير"

"عرفت إن زوجتي اختفت مصادفة، كيف تريدين أن أكون؟"

بشقاوة "زوجتك؟ الآن؟ بربك… وكأنني لا أعلم كم تكرهني؟"

"أكرهكِ؟" يضع كفه على فمه مصدوماً

بصوت حيوي، سعيد، صافٍ "أتفهمك، لقد وقعت أيضاً في غرام نساء العاصمة… إنهن براقات، ناعمات، لا ينقصهن شيء… لذلك قررت..."

مبتسماً "آها؟ إذن أنتِ في العاصمة وقد قررتِ… لنرى ماذا قررت نُوار"

"سأحررك… سأطلق سراحك…"

تلاشت بسمته، ساقه اليمنى تهتز في قلق "ماذا؟"

ببراءة "لنعش... أنت في طريقك وأنا في طريقي، لقد تمسكت بأذيالك بشدة، كنتُ خبيثة، فكرتُ بنفسي... وبلطفي المزعوم عذبت ضميرك، لا يمكنني مسامحة نفسي، آذيتك" تبتلع ريقها "وحبست نفسي معك... إن كان هذا يواسيك"

"نُوار" يغمض عينيه ويعض شفتيه كما لو كان يكتم ألماً

تتحدث بنقاء وصوت مفعم بالمرح والطيبة "حين أتيت إلى العاصمة عرفت!

كم اهتممت بي… المحبة التي منحتني إياها كانت أكبر من أن احتملها… وكم كنتُ ناكرة للجميل ومحدودة الأفق!… أريد تدارك ما فاتني ما دمت صغيرة، فاتتني حياة بكاملها، أريد أن أدرس في جامعة، أريد أن أتعلم كيف أكون أنيقة ورقيقة مثل بنات العاصمة، أريد أن أقع لمرات كثيرة في الحب كما يفعل الشباب، فأنا شابة كما تعلم"

"آها؟ وبعد ذلك؟" هدأ جسده، ورق وجهه، إنه عديم الحيلة الآن، أحلامها كثيرة، وهو لا شيء سوى عقبة في طريقها.

"أريد أن ألتقي بأمي، أريد أن أدير عملي، وقد أتزوج زواجاً حقيقياً؟"

"ستكون عائلتكِ رائعة"

"نعم، أروع من عائلتك، سأتصل بكَ حينها لأريك"

"لا تنتظري حتى ذلك الحين، اتصلي بي كلما احتجتني، سأرد... أعدكِ"

"لقد أدرت فندقاً كبيراً، ألن أستطيع إدارة حياتي بدونك برأيك؟"

تدحرجت دمعة من عينيه "بكل تأكيد"

ينتهي الاتصال، يستلقي على السرير، يحدق في السقف، يتمتم "أنا وحيد الآن"





6:07 ص

2021-04-24 السبت

سمانا السامرائي




تعليقات

  1. .





    جميلة 🥺
    أحببت طريقة السرد وتسلسل الأحداث

    تمنيت لو كانت النهاية مختلفة!
    أو بمعنى أدق تمنيت لو أنها لم تقف هنا, أريد أحداث أكثر وأريدهم أن يعترفو بمشاعرهم الحقيقية لبعضهم 💔

    أشعر بالحزن لأنهما افترقا دون حديث صادق
    في الحقيقية أشعر أن هذه ليست نهايتهما وأنهما سيلقيان ويتحدثان بصدق!

    ردحذف

إرسال تعليق