التخطي إلى المحتوى الرئيسي

قراءة في رواية ( ما تبقى لكم – غسان كنفاني )

قراءة في رواية ( ما تبقى لكم – غسان كنفاني )









*ملاحظة: لا تقرأ التدوينة قبل قراءة الرواية^^



في هذا التدوينة وددت الحديث عن رواية (ما تبقى لكم – غسان كنفاني) التي أنهيتها بالأمس، ذات طريقة الكتابة التي ستجدها غريبة حتماً في البداية ثم ستعتاد عليها، ثم ستحبها وتدمنها حتى تنهي الرواية سريعاً.

كيف يمكنني الحديث عن هذه الرواية؟ إنها رواية عجيبة، التداخل والترابط والعلامات المشتركة التي تشير لمعاني متشابهة لكن بتأثير مختلف على الشخصيات الأساسية مبهرة للغاية.

طريقة عرض المواضيع فذة، لدينا مواضيع متعددة، ضياع رجل، وتخبط امرأة، مشاكل عائلية، حرب، خطيئة، لدينا عناصر مختلفة كـ (يافا)، الطفل، الأم، الجندي، الصحراء والساعات، ساعة الحائط تحديداً أضفت بعداً آخر على الرواية وجعلتها أعمق وأكثر حياة، جعلت الأبدية قصيرة وخانقة للغاية، الساعة كان لها تأثير قوي، وجعلت هذا الترتيب المتداخل للرواية ممكناً بل وطبيعياً.
هناك أيضاً جانب الخطيئة الذي قدم بوصف إيروتيكي بعض الشيء ولكنه جاء طبيعياً وغير منفر ولا يشجع الخطيئة ولا يلمعها لكنه على الجانب الآخر لا يقصيها ويهاجمها بذعر بطريقة تجعلها مرغوبة وهذا ذكاء بالغ في الطرح. 
الجزء الذي يتكلم عن الحرب ليس كئيباً، عرض الكاتب المواضيع دون أن يجعل القارئ في حلقة الموضوع، جعله متفرجاً ينظر من بعيد للمسرحية التي تجري على صفحات الرواية وكأنها لا تخصه، هناك روايات تذكر الجوانب السلبية وتجعلها أمراً طبيعياً الأمر الذي لا نجده هنا، وهنا النقطة الأهم… أنت تفهم الصورة من الموضوع ولكنك لا تتداخل مع الموضوع، أمر رائع!
لقد عرض مفهوم الموضوع وليس أحداث المفهوم بين دفتي الرواية، إنها تقنية متقدمة وتحتاج لإدراك وفطنة وقدرات خاصة.
صوت الكاتب غير موجود خلال الرواية، الشخصيات حية وليس الكاتب، وهناك شخصيات متعددة، آراء متعددة، هناك تقديم قوي للشخصيات، وبصمة قوية لكل منها، الأمر الذي حصل فيما يقل عن 90 صفحة، وهذا أمر جنوني! إنه لم يتناول الرواية من بعد واحد أو اثنين فقط، تعددت الأبعاد، تعددت القصص الصغيرة التي بنت الرواية دون أن تفرط الرواية من يد الكاتب، كانت متماسكة لحد مذهل، تمنيت لو إن غسان كنفاني حي لأسأله كيف كتب هذه الرواية؟ أريد أن أسأله عن الكثير.
هناك ذكاء منقطع النظير في الرواية، ذكاء في استخدام الأساليب الأدبية، ذكاء في تطويع المعرفة الشخصية بأسلوب بلاغي أدبي، لن يفعل هذا الشيء إلا عبقري حقيقي بموهبة أسطورية متفردة، والرواية تعكس شخصية رائعة للكاتب أساساً، مدى معرفي واسع، إحساس مرهف، وأمور كثيرة ، هذه الأمور التي لا نحصل عليها في القراءة والتعلم، هي عبارة عن حساسية للأدب وللحياة عموماً وموهبة فطرية.


غالباً كتاب وقراء اليوم يحاولون كتابة واختيار أسطر ذات تأثير لاقتباسها، هذه الرواية أنت لا تجرأ على محاولة تجزيئها ولن تجرأ، ومحاولة تجزيئها هي عبارة عن عدم تقدير لجوهر الرواية بصورة صحيحة، أنت لا تخرج من الرواية بسطر، بل تخرج بحالة ذهنية مختلفة، أنت بعد الرواية لست نفسك قبلها، بالإضافة لكون الرواية لا تمنحك تلك المساحة لاستخراج الاقتباسات، أنت فقط تقف هناك وتتقبل كل ما تعطيه لك الرواية بصدر رحب.


الرواية بلغة بالغة الشعرية، بنفس الوقت ليست معقدة، وليست بعيدة عن القصة، إنها أداة من أدوات القصة التي تربط القارئ بالشخصيات، ليست منفصلة عن روح القصة وطبيعة جريان أحداثها، الأمر الذي لا يتقنه الكثير من الكتاب حالياً.
الشخصيات، كيف يمكنني أن أعبر عنها؟ إنها شخصيات سنجد أنفسنا فيها جميعاً، قليلاً منا في كل شخصية الأمر الذي يجعل الرواية رائعة أكثر.
الرواية انتهت تماماً في المكان المناسب، إنها ليست نهاية مفتوحة وليست نهاية واضحة ومحددة المعالم، إنها نهاية مقطوعة، نعم مقطوعة! هذه النهاية المفزعة للكاتب والقارئ على حد سواء، وفكرة النهاية المقطوعة هي فكرة بإمكانها أن تكون سبباً في غضب القارئ، وبإمكانها إتلاف أفضل الروايات، لأنها تقوم بقطع حاد وحاسم للقصة بلا أي مقدمات، لكن في هذه الرواية جاءت في المكان المناسب، باللحظة المناسبة، بالطريقة المناسبة، مجدداً إنه أمر لا يقوم به إلا شخص عبقري، لم يولد فينا أي فضول لمعرفة المزيد، فقط أعطتنا الرواية العبرة بطريقة معينة وانتهت، كذلك قدمت الشخصيات بطريقة لا يمكن الارتباط بها مثلما ذكرنا هل تراه فعل هذا وهو يدرك هذه الأمور؟ هل فكر بكل هذه التحليلات؟ أُرجح أن يكون الجواب لا على الإطلاق، إننا نقف في حضرة موهبة استثنائية وذكاء أدبي متميز (أعلم كلنا نعلم هذا منذ زمن بعيد وقلت هذا بضع مرات في هذه التدوينة لكن... ماذا يمكن القول عن الموهبة غير إنها موهبة؟) لذا نحن العاديون الذين نفكر بالأدوات والتعلم والمهارات المكتسبة علينا أن نصمت ونراقب، عندما تفكر المواهب الفطرية في الأمور الحرفية كثيراً يفسد الأبداع العفوي.

لدينا هنا أيضاً عنوان مكمل للرواية بطريقة ممتازة، جذاب وآسر، إنه يلمس أرواحنا وذكرياتنا ويمنحنا فرصة للانقطاع عن العالم والغوص في بعض أكثر مشاعرنا قدماً وتعقيداً واضطراباً .

إنها الرواية الممتازة التي يجب أن نتعلم منها ككتاب، وفي الحقيقة التعلم هنا لفظة غير مستحبة وغير متلائمة مع روح الرواية، ليس هناك ما يمكن تعلمه منها، علينا فقط أن نجلس في حضرتها ونقرأ وننبهر، حقيقة إن هناك نص مبهر لهذه الدرجة لوحدها هو أكبر فائدة يمكن الحصول عليها.



3:05 م
2018-03-14 الأربعاء
سمانا السامرائي




Share on Tumblr

تعليقات