التخطي إلى المحتوى الرئيسي

رياح ليلى - كتابة جماعية

رياح ليلى







كان يوماً صيفيا متوهجاً، ليس حاراً بالمقدار الذي يجعلك تعاني، ولكنه على قدر من الحرارة تجعلك لا تستطيع اخراج قدميك من ماء البحيرة، ولو كنت تستطيع لانغمست في الماء كلك، لكنك تقاوم بشدة ذلك لأن الرجل المحترم لن يعرض مظهره للتشويه أمام أنظار علية القوم...
التفت يساراً إلى ذاك الجسم النحيل لطفل لم يتجاوز الثامنة من عمره بتلك البشرة السمراء والشعر الأسود الحالك كالليل ،كان سعيداً جداً يعبث بالماء ويتحرر من ذلك الشعور الذي قيدني قبل لحظات ،انظر إلى عينيه مباشرة تلك العيون التي تجرني إلى الغرق الحقيقي ، ممتلئة بالغموض والقوة والثبات ، ربما تحمل لنا العيون سر ما نستطيع من خلاله ان نرى العالم الداخلي وتنبئنا عن صاحبها، أنه طفل يشبهني تماماً....
التفت الّي الطفل وكأنه احس بنظراتي ثم رسمت على شفتيه الصغيرتين ابتسامة لطيفة لمعت خلفها اسنان صغيرة كالؤلؤ ، وضع اصبعيه على انفه بعدما اخذ نفسا كافياً وغاص داخل الماء وراح يسبح كالسمكة ، تقافزت خلفه قطرات الماء بكل رشاقة مصطبغة بلون الشمس اللامع ، قطرة طائشة استقرت على بدلتي مسحتها بسرعة ونهضت من مكاني ، الآن قطرة وبعد قليل البحيرة بأكملها تستقر هنا .....
وأنا أسير بأتجاه سيارتي مستذكراً المنظر الخلاب الذي عكسته مياة البحيرة ولمعان عينيّ الطفل البريئة التي جعلتاني أنتعش ناسياً هم الصيف بأكمله وأذا بي أتذكر بأن السيارة معطله وعليّ أصلاحها لكن ليس لدي الوقت الكافي ففي الطرف الآخر من المدينة تنتظرني ........
تنتظرني تلك الفرصة التي طالما حلمتُ بها، نعم أنا شخص مرموق بين من يعرفني، ويظن الجميع إني سعيد، ومحترم، وإني قد حققت كل ما يمكن للمرء أن يحققه، وكل ما أريده، لكن ما تراه هو مجرد قشور، دعني أخلع جلدي، وأقنعتي البورسلين المخادعة حتى ترى الحقيقة البشعة... حقيقة أنني لستُ سوى...

حقيقة أنني لستُ سوى بقايا من قوة رجل عظيم لدى أقرانه . أفتقد للصدى الذي يردد شكواي دون أن ينوح ويأن ، للكتف الذي يسندني عندما يزداد أعوجاج العالم . وبينما أنا غارقٌ بمخاطبة تعاستي قررت أستأجر تكسي وأنتقل لحيث الحلم الذي قرر المجيء إليّ بعدما أصابه الخرس في تلك الليلة...

نعم الحلم الذي لطالما كنت اسعى للحصول عليه وها هو الآن يعود بعدما أن دنت الخيبة عليّ ، وصلت الى المنزل فصعدت للغرفة لأحزم أمتعتي ، وحملت كتبي وأوراقي لأستعد للسفر ...
بشكل غريب لم تفارقني صورة وجه ذلك الطفل، إنها على نافذة السيارة، على الغيمة، على ساعتي، على جلد المقعد الأمامي، على الشجر، في الصالة، على مخدتي، وفي ثنايا يدي أيضاً.
ثم رن الهاتف...
ثم رن الهاتف
كانت ليلى تلك الفتاة التي صادفتها في سفري العام الماضي وقضينا معاً من الوقت مايكفي لمعرفة مايخبىء القلب المسكين بين أضلعي .قبل أن أجيب حاولت أن أحزر ماذا تريد فمنذ لقاءنا ذاك لم نتواصل بشكل جيد ......
ليلى ذات الشعر القصير البني، والعينين اللامعتين، زميلة العمل، رفيقة الروح، تشاركنا في الكثير من الهوايات، وعملنا على إنجاز ذلك المشروع.
لماذا تتصل الآن؟ لمَ هي هنا؟ وما بال صوتها يرتعد؟ لماذا يشعر قلبي بأن شيء سيء حدث لها أو على وشك؟ لماذا تريد رؤيتي الآن في المقهى؟ لماذا هذا التوقيت السيء؟ بعدما تعافى قلبي، بعدما قررتُ البدء من جديد...
عجيب امر ليلى عندما اعتقدت أني أهرب منها صعدت الى القطار طلبا للنسيان..
القيت نظرة أخيرة على الماضي ودخلت في كهوف النوم بعد ان رميت بالذكريات من النافذة ..
رأيتني اليها أطير ويحملني الهواء الطلق بعيدا عن الطريق ..
عندما استيقظت عند آخر محطة نزلت من القطار ورأيتها تنزل معي من جميع الأبواب ..
عندما صارت جميع المسافرين .
تناثر الحلم أمامي وبدأت البعثرة تحيطيني .
كانت ليلى صديقة رائعة ، ذبذبات صوتها تغرقني بالأمان ، أرتجاف صوتها اليوم كصاعقة ضربت على ذاكرتي فأنستني موعد السفر
خرجت مسرعاً بأتجاة المقهى لمقابلة ليلى لكن ماآثار أندهاشي هو من جاء بأصطحابها....
وكان معها شاب يبدو أنه من الطبقة المخملية فكان مظهره يوحي بذلك ، فتعجبت منه وسارعت بالسؤال من هذا الشاب ؟
قالت : أنه شريك حياتي وقبل أن يصبح حبيبي وزوجي ، كان مديري بالعمل .
لا أعلم مالذي دهاني وقتها ، ولا أذكر ماهو شعوري ولماذا شعرت بالغضب ؟ ...
القيت بجسدي الضعيف على الكرسي وانا أحدق باصابعهما المتشابكة خلف الطاولة ، جلست ليلى امامي وجلس هو بجانبها تماما ولازالت ممسكه بيده ، تبادلنا النظرات لثواني قال زوجها بعد ان سعل بصوت عالي : مرحبا بك ، ونعتذر عن هذه المسرحية التي افتعلناها انا وليلى حتى تقع في شباكنا ، اتسعت عيناي بذهول واخذت انظر الى ليلى لعلها تقول ان ماقاله زوجها ماهي الا مزحة ....
نظرت إليّ نظرة باردة شعرت بتجمد أوردة قلبي وعظامي ..
سأخبرك الحقيقة تحدثت بذلك الصوت " إنه الصوت الوحيد الذي بإمكانه بدأ حرب أو قول أنا أحبك "...


قال الرجل : يا صاح! هل نحتاج لكل هذه التمثيلية لنراك؟ اشتقنا إليك بشدة، أين اختفيت؟
قلت: ولكن معذرة من أنت؟
قال: صديقك أيها الأحمق (ضرب رأسي بقوة)
قلت متعجباً: صديق!
قالت هي بتلك الإبتسامة المحترفة التي تظهرها للعميل فيرفع قلمه، ويوقع على أوراق أكثر صفقات وعورة: ماذا بك اليوم؟ هل تعرف من أنا حتى؟
قلت: ليلى، التقينا في اثناء نقلي لفرع الشركة الشمالي.
تبادلت النظرات مع من دعا نفسه صديقي، وقالا بنبرة ساخرة ونظرات فارغة في نفس الوقت: ولكن من ليلى؟...
كسا حوارنا القليل من الصمت ربما كان مقصوداً منهم ليجعلاني أتجرع الصدمة رويداً رويداً .
نظرت اليهما وهما منشغلان بتجميع أوراق مبعثرة أمامهم . لوهلة شعرت بأن مجيئهم ماكان الا لتأخير سفري
فأستجمعت أفكاري وقلت بنبرة مليئة بالثقة
أن لم تكوني ليلى ، إذن من أنتِ؟ ....
صمتت قليلاً وقالت بإرتباك واضح : انا لست ليلى
نهضت بغضب والشرر يتقافز من عيني ، وقلت بصوت حانق نافد الصبر: هكذا اذن !
هي من ارسلتكما إلي ، هي وحدها من يدبر كل هذا ، زوجتي الخائنة إذن خلف كل هذه المهزلة ، قفزت دمعة من عيني وضعفت امام خيال طفلي الذي توفي بسبب اهمالها وقلت بصوت يرتجف حزناً: اذن ارسلتكما حتى يخيل لي انني مجنون او مصاب بمرض ما ، حتى اشك في صحتي ، لم يكفيها مافعلت بي والآن جاءت بخطة جديدة.
نظرت الى عيون ليلى التي تتلألأ رأيت لمحة حزن ثم شاحت بنظرها عني بألم ، تساءلت بغضب : لماذا ياليلى؟ .....
صرخت وقد أحمرت عينيها وانهمرت دموعها وقالت: من هي ليلى بحق المقدسات؟ هل هي المرأة التي جعلتك تقتل ابنك وزوجتك -التي هي قريبتي- من أجلها؟ لقد قتلتهما أيها الوغد. ظننا إنك غارق في تأنيب الضمير، تعيش مكتئبا، وظننا إن من واجب الأصدقاء المساعدة، ولكن يبدو إننا كنا مخطئين، كنت تقضي وقتا جميلا فحسب، هل تتعاطى الممنوعات؟ (أومأت بلا) لماذا تتمادى لهذه الدرجة؟ لا ليس علي أن ألومك ، (ضربت بقبضتها على صدرها بقوة) نحن الملومان الوحيدان هنا لأننا عرفناكما على بعض.
نظرت لهم بدهشة ، لماذا يتهموني بقتل امرأة وابنها ؟ ولمَ يدّعون بإنها زوجتي ؟
من هؤلاء ؟!
شعرت بدوار وإرتباك ثم بدأت الأرتعاشات تزداد ولا تتوقف ، فهم ينظرون لي بتعجب ورهبه ، من شدة الإرتعاش سقط الكوب من يدي ، وأصبح جسدي يترنح لم تعد تفيد معي جاذبية الأرض ..
غريب ! ماهذا ؟ الرؤية تبهت ، لم أعد أرى شيئًا ، ماهذا الظلام ؟
تساؤلات تتزاحم في ذهني ، شعور غريب يسري في جسدي ..
قبل أن أسقط من مكاني دارت في ذهني اسئلة
أين أنا !؟ ومن أنا !؟ كيف جئت الى هنا !؟
أصبح النور يتلاشى حتى أختفى تمامًا ...
النور العليل المائل إلى الزرقة يتسرب إلى جوفي، يضطرني لفتح عيني على مضض، يا ترى أين أنا؟
ماذا يحصل هنا؟
شعرت بحلقي جاف للغاية،
تمتمت قائلاً بصعوبة: آه... (تنهدت) هل لي ببعض الماء؟
قالت صوت أنثوي بغيض جداً، ويسبب النفور: هل استيقظت؟
رفعتني بذراعها، سكبت بعض الماء بين شفتي، وسعادتني على الاستلقاء، وكنتُ حينها لم استخدم عيني للرؤية بعد، ثم فتحت ووجدتها تلك المرأة المريعة التي أذكر جيداً إنها ليلى، وهي تنفي ذلك وتدعي إن لي زوجة وأطفال.
قلتُ: لها أين أنا؟
أجابت: المستشفى، لقد أغمي عليك.
قلتُ بصعوبة: وذلك الذي يدعي إنه صديقي؟
قفصها الصدري كان يرتفع وينخفض بشدة، وجهها مزرق، نظرت يميناً ويساراً.
وقالت وهي تنظر لعيني نظرات كانت تتحدث بلغة لم يكن يفهمها إلا أنا - إن كانت هي ليلى التي أعرفها - : إنه هناك. يتصل بعائلتك لتأتي لزيارتك.
قلتُ في نفسي "هراء مرة أخرى! عائلتي التي تعيش في دولة أخرى! هذه المرة لا يمكنني أن أمررها "
صرختُ قائلا: ماذا فعلت لكي أستحق كل هذا؟ هل أنتِ بكامل قواك العقلية؟
قالت: هل البحيرة كانت حقيقية في رأيك؟
قلتُ: ولمَ لم تكن لقد ذهبنا سويا هناك ذات مرة أيضا؟ لحظة أنتظري كيف تعرفين بشأن البحيرة؟
قالت: قشر الجوز صلب، لبه لين.
أغمضت عيني بقوة، وقلتُ في نفسي "ما الذي يحدث الآن؟ كيف تعرف البحيرة التي أخبرت ليلى إنها لم تكن حقيقية من شدة الجمال؟ والعبارة التي أخبرتها لليلى حين أردتُ أن ألمح لها أن لا تثق بمظهر العميل إن لم تكن ليلى؟ ..."
وامتزج سواد الظلمة بطيف بنفسجي اللون كالسديم ، فراغ يتشكل بصورة مشوشة ، أحسست بأنفاسي وكأنها تدخل في حيز ضيق ، راودني شعور بارد رسم لي صورة البحيرة ، إنسجام الطبيعة ، تناسق ألوانها ، حفيف أوراق الشجر و بالنسيم الدافيء الرقيق يشبه بلطفاته ابتسامة طفل صغير طفل هناك شاهدته طفل تبسّم لي وانحصر المشهد كله في تلك الإبتسامة لوهلة حتى شعرت بالأنفاس تتصعد من أقصى صدري و بجريان الدم لعينيّ فتحتهما على يميني ذلك الرجل المدعو صديقي
وعلى يساري تلك المرأة التي بت أرمقها بنظرة فارغة مستفهمة حتى ...
حتى استجمعت قواي وقلت: ليلى
راقبت نظراتها وهي تنتقل بيني وبين ذلك الرجل
ردت ليلى بابتسامة باردة : هل مازلت تدعونني ليلى؟
اصبحت الصورة امامي كالحلم ، احسست بالدوار اغمضت عيني و تساءلت من انتي اذن؟
دخل في هذه اللحظة الدكتور وديع وطلب منهم حالاً ان يخرجوا من الغرفة .
اخذ الدكتور الورقة التي لزقت بحرص على حافة السرير ، رفعها اليه وهو يضع نظارته الطبية على عينية المجعدتين
واخذ يقرأها بأهتمام
ملامح الدكتور يظهر عليها الارتباك ، نظر الي وهو يغمغم تباً لقلب نزعت منه الرحمة !
نظرت اليه وقلت: مالذي تعنيه يادكتور؟

ممسكا بذراعها باستحكام ذلك الذي يدعو نفسه صديقاً، ويشدها إلى ركن منعزل في المستشفى خلف البوابة الحمراء المفضية إلى سلالم الطوارئ

تتقد عينيه شررا، نظراته تهددنها قبل أن تفعل كلماته، يحكم قبضته على تلك الذراع النحيلة فتكاد تنكسر.

يصرخ قائلا، وهو يشدد على كلماته: لماذا تصرين على إغضابي؟

ترتجف بشدة، وتنظر له متوسلة، والدموع في عينيها، ثم تقول: ماذا فعلت؟ ما الخطأ الذي ارتكبته؟

يوجه أصبعي يده الحرة الوسطى والسبابة إلى جبهتها، ويقول: ماذا فعلتِ؟ (يضرب جبينها بأصبعيه ثلاث مرات) ماذا فعلتِ؟ هل تظنين إني أحمق؟؟؟؟

تصرخ من شدة الهلع، وتتوسل طالبة الرحمة مجدداً، وتقول: أنا أتبع كل ما تقوله يا أمين حرفياً! عطلت السيارة، وشاركت بهذه التمثيلية السخيفة، ما نفعله سيجعله يجن بالتأكيد قريباً، سيذهب "رياح" للمصحة كما تريد، وسترفع تلك الدعوى اللعينة.
أليس هذا كافياً لكي لا أتعرض للإيذاء؟

قال: لا تقتربي منه بتاتاً، وإلا سيعرف إنك ليلى حقاً! إنها مئتي مليون! إنها التركة التي يجب أن تعود لي طبيعيا لكن ذلك المغفل اعترض طريقي لأنه الأحب إلى قلب جدي! لذا عليك أن تكوني حذرة وإلا مزقتك اربا اربا، كما ترين سأذهب بإبن عمي للمصحة، هل تعتقدين إني لا أستطيع قتلك؟ (ضرب على خدها) لو كنتِ بجمال سعاد حسني سأقتلك أيضاً. لو كنتِ أختي وستعيقين أخذ مالي سأقتلك أيضاً. أنا هذا النوع من الأشخاص لذا كوني حذرة يا جميلة، وكوني ذكية كما عرفتك. أوه!

أشاحت بوجهها وقالت: مريض فعلاً.

قال بنبرة تدل على إنه مختل بالكامل: يا آنسة حبيبك الذي تحمينه كل هذا القدر هو المريض فعلاً! ويتعالج لدى مستشفى أمراض عقلية أيضاً! لقد أخطأت هذه المرة! دينغ دونغ.

أخذت ترقبه من بعيد موشحا على سريره بالبياض ، راية سلام ملقاة على أرض معركة لم يلقي لها دعاة الحرب إهتمام تتخاطفها أرجلهم
وهي تعرفه جيدا وتفهمه ، أولئك الذين لا يصلحون للدنيا ، أم الدنيا لا تكون مع مثلهم يبقون على نقاء قلوبهم لا تشوبهم الشوائب وإن أدى ذلك لإخلال عقولهم .
قطع نظرها الغارق في التأمل مرور الطبيب أخذت تسأله وعينيها تطل بإستراق من فوق كتفه إلى عينيه الذاهلة تبحث في محيطه عن إجابات ..
ذهب الدكتور بعدما طمئنها باستقرار حالته ، تبعته بنظراتها حتى ولج في احدى الممرات ، التفتت يمنه ويسرة بحذر وبدأت خطواتها البطيئة تتجه الى ذلك الباب ، دقات قلبها تتسارع ، خيط من العرق ينحدر من جبينها ، وقفت تراقب للمرة الاخيرة الممر ودخلت بهدوء بعدما تأكدت ان لا احد قريب من هنا.
رأيتها تقترب الي بحذر بالغ ، وقفت امامي تماما والتقت اعيننا للحظات
قلت بصوت خافت : اما زلتِ تنكرين انكِ ليلى؟

" تيك تاك توك
تيك تاك توك " صوت الساعة، إنه صوت حاد للغاية، صوت يوشك على تقطيع أوصال ليلى، ويجثم على صدر رياح ليقطع أنفاسه.
ردت: كنتُ ليلى أم لا، ماذا سيغير هذا؟

قال: لا أعلم ماذا يغير؟ (نظر حوله، وأظهر تعبيراً طفولي) لكنني خائف، أعتقد لو إنك ليلى سأشعر ببعض الاطمئنان. هل حقا تسببتُ بموت عائلتي؟ هل لي زوجة وطفل أصلاً؟

قالت: لا يمكنك الشعور بالإطمئنان.

فُتح الباب، ودخل أمين، وقالت وهي تدفع رياح : انه يحاول الخروج من المستشفى، وأنا امنعه لأنه ليس أمر جيد لصحته.
نظرت في عينه، وقالت له ان يفعل ما تقوله، وقد فهم ذلك، دفعها فاصطنعت ردة فعل مبالغ فيها، وألقت نفسها على السرير.
سحب خرطوم المغذي من ذراعه، أخذ سترته الملقاة وهاتفه إلى جانبه ونهض، مشى حافيا نحو باب الغرفة، وقال: سأضع حدا لهذا.

حاول أمين إيقافه، لكن أمين كان ضعيف البنية لا يستطيع فعل شيء أمام شخص ضجم الجثمان كرياح.
سار حافي القدمين مبتعدا عن المستشفى، اختبئ في زاوية بعيدة عن النظر.

نظر إلى السماء، حدق في الغيوم، ابتلع مقدارا كبيرا من الهواء، هذا اليوم من الصيف قدا بدا لسبب ما غريب، ولكنه الآن استحال إلى مصيدة فئران، عقل مجنون!


انظروا من يتحدث عن الجنون! إنه أنا! يالسخرية القدر

أنا الذي أمضيت السنين الخمسة الماضية أزور عيادة طبيبة نفسية أسبوعياً بإنتظام، ولا يمكنني حتى ان أغفل عن أخذ أدويتي لأني قد أصبح مجنون حقيقي، لدي أضرار نفسية عميقة، أضرار تعيقني عن تذكر سنواتي السبع التي تسبق بدء عصر جنوني، لكن خلال خمس سنوات لم يظهر لي زوجة وإبن، وأسرتي في الخارج، لكني رأيتُ بأم عيني تلك الوثائق التي تؤيد إني قدتُ بتهور في ليلة مشؤومة، وقد تسببت في حادث فظيع، لم لا أستطيع تذكر هذا؟ لم أتذكر العمل جيداً؟أوشك الوصول لموقف السيارات الا أنه تذكر لم تكن لديه سيارة هناك ، شكر الله لانه تذكر شيئاً ما صائب بعد الأحداث التي جرت . أكمل سيره متجهاً للطريق العام لأستأجر تكسي
رغم الفصل كان صيفاً الا روحه تبلد بهموم سنواته السبع وكأنها ستمطر تذكراً لما نسيه .
ليلى هي وآمين أكملوا أجراءات المستشفى وأسرعوا للالحاق به الا مامر به رياح جعلهم يصلون منزله قبله .
كان قفل المنزل غير محكم لشدة أستعجال رياح في الليلة الماضية لمقابلة ليلى.
أدخلا وكان منزلًا كلاسيكياً يعود لرجل أجهد نفسه بالعمل متناسياً الحياة كيف تعاش.
أخذا يمعنان بكل تفصيلة على الأرائك والجدران لكن لم يفلحان بالحصول على مايريدان،
حاول آمين التفتيش عن الوصية في خزانة رياح الا أن ليلى منعته وخلال مشداتهم همساً سمعا الباب يفتح.
فتح الباب بهدوء كي يحافظ على هدوء المكان،مكان الذي كان يحمل في كل شبره الحب والأمان ولكن أصبح كسجن مخيف الأن...
دخل بهدوء حتى لا ينفض الغبار من تلك الذكريات التي تأكل روحه ببطء في هذالوقت بالتحديد..
تلك الذكريات التي في يوم ما ستكون مفتاح خلاصه من هذا المأزق والتيه
لابد وأن يرجع كل شيء كما كان ....
من بين شفتيه المزمومتين ظلّ يتمتم في يوم ما سيكون كل شيء كما كان بل وأفضل…
اغلق الباب بنفس الهدوء الذي فتح به الباب ، انتصب واقفاً وهو ينظر بذهول الى المشهد الذي امامه ، فوضى عارمه تجتاح المكان وكأن معركة ما وقعت هنا قبل قليل !
تقدم ببطء ، صوت الاوراق تحت قدميه الحافيتين يشق السكون ، دار بنظره على ابواب الغرف المشرعة ، وحاول يتذكر لِمَ كل هذا؟
اقترب من الطاولة ورفع الاوراق التي عليها ، تفحصها بنظره و..…
أدرك إنه في خطر، وإنهما لا بد وأن يكونا قد سبقاه إلى هنا، سمع صوت خطى قفز من النافذة، وتسلق إلى غرفته رغم إن خشونة الجدار تسببت ببعض الجروح العميقة، لقد بدأ احساس يراوده إن الأمر برمته فوضى، إن هناك خلل ما، وإن الجواب بشكل مؤكد أما في دفاتر مذكراته، صوره، والوثائق.

شعر بسرور غامر حين رأى نافذته التي يمكن أن تفتح من الخارج، فتحها بهدوء، وتسلل إلى غرفته، نظر فيما حوله، وقال في نفسه "هل قامت حرب أهلية هنا أم ماذا؟ ثم لماذا انني اتسلل إلى غرفتي؟ هل نحن نعيش في فيلم أكشن"

بحث بين أغراضه القديمة بهدوء وسرعة، عثر على صورة بين صفحات كتاب تجمعه بجده.

وضع الصورة في جيبه، وخرج مسرعاً من النافذة قبل أن يدركانه هؤلاء المعتوهين.


هبط بحذر، ثم عبر السياج المحيط بمنزله، وجلس مختبئاً بين حاويات القمامة يفكر عميقاً بما فعله للتو

لماذا أخذ هذه الصورة؟ ولماذا يشعر إنها تحتوي على الجواب؟ ولماذا الدموع تملئ عينيه وقلبه يشعر بالألم لمجرد رؤية الصورة؟ من هذا العجوز؟

عصر جمجمته بين سبابته وأبهامه بقوة، ونهر عقله عن محاولة خداعه، وفجأة رأى صورة منزل في الريف، منزل كان يلعب فيه كثيرا في طفولته، فتمتم قائلاً "علي العثور على ذاك المنزل، ربما قد أجد الجواب هناك"

مشى رياح بخطى تعب السنين وأنينها نحو ذلك البيت الريفي، وكانت تترتسم أمامه خيوط مظلمة كظلام قلوب توشحت بالسواد، كان يمشي وفي يده قنينة ماء يعكس فيها ضوء الشمس فينعكس أمامه الشعاع، وبين خطوة وخطوة يتلمس جنبه ليطمن لوجود رفيقه بالدرب القديم "صورة جده العجوز" ، فقد كان يتمتم له ايها العجوز دلني الطريق من أنت ومن أكون..؟!
وصل رياح للبيت وقد تهالكت الأبواب وتصدعت الجدران وغاب عن البيت السكان الا من قطة صغيرة اختبئت تحت أريكة وكأنها تخاف صورت المار حولها..

وقفت عند بوابة تلك الدار أتأملها وأتأمل ذكريات طفولتي التي لا بد أني عشتها هنا، فهنا كانت أمي تغزل الصوف وأبي هناك كان يقرأ الجرائد كنت اتسلل من المصعد للسقف لأرى النجوم والقمر..!
هنا أيضا يستقبل جدي ضيوفه ويروي لهم القصص الحكايات..!!

توقف رياح قليلا وكأن صاعقة ضربت رأسه فعاد يستذكر ما قاله للتو..

أمي
أبي
جدي
السماء والنجوم والقمر...؟!

ما هذا يا إلهي.. لماذا الأرض حولي كلها تدور .. لماذا قدمي بهذي اللحظة تخون جسمي النحيل ولا تحتمله ..

جدي .. يا جدي .. ارجوك يا جدي رد علي كان رياح يقول ذلك وهو يمسك وبقوة تلك الصورة التي كانت بجيبه

كيف تتركني ياجدي لهذا العبث ، أن أكون على غير هداك ، أم أنك عاقبتني بهذا الأختباء ، لكي أنفصل عنك وأتّبع درب التائهين .
حسنًا كان يمكن أن تكون صورتك ذات تراقبني ، توبخني ولكن حتى هذا الأمر حرمتني منه .
ليس ذنبي أني وجدتك أولاً ، كنت تنظر لي بعين لاتشبه عين البشر ، لم تكن متفقًا مع البشر أبدًا !
ليس ذنبي عندما أردت أن أتعلّم الحديث ، جاء صوتك في حنجرتي وخرج عاليًا ، لم أكن في يومًا من الأيام أنا ، إنما أنت .
وهاأنت تعاقبني بالإختباء .

وهو يمسك وبقوة تلك الصورة التي كانت بجيبه لعلّها تعيد له لحظة من سبع سنوات مفقودة .

ليلى بعد خروجها من منزل رياح أخذت بحوزتها رسالة مكتوبة بخط باهت وجدتها في كتاب ما أثناء محاولتها لمنع آمين من تفتيش الخزانة .

آمين عرف بالفرصة التي أتيحت لرياح مؤخراً فذهب يستفسر من مدير المشروع عنها .

أخذ رياح يتطلع من نوافذ لمنزل لما حوله . فلم يرَ سوى أبتسامة المزارعين المنهمكين في العمل .وأطفال القرية المشاكسين . وهو ينظر للسماء حيث فب المساء تبدو لقطة ربانية محترفة تظهر في الأفق البعيد . فدنوا منه أطفال بعمر الحادية عشر أو العشرة كانوا يرتدون سراويل قصيره وأقدامهم مغطاة بالوحل فأخذ ينظر إليهم بأستغراب موشح بتذكر شيئاً من الطفولة .…
سقط رياح على الأرض ولكن وعيّه لم يغب عنه فلا زال يحبو كطفل أصابه الشلل وسكن عالمه الخوف، كطفل يترقب انقاذ أمه التي لم تعد تسمع صراخه ولم يعد حضنها موجود، كان يحبو وكفوف يده تتسخ من الغبار وكلما زاد اتساخه كلما اخذ قطعة من قميصه ونظف بها صورة جده..
لم يكن رياح في تلك اللحظة سوى ميتاً اعاده القدر لـ يفك شفرة ما..

استمر بالحبو الي ان ارتطمت احدى قدميه بلوحٍ خشبي سقط ذلك اللوح وسقطت معه كل الحكاية..!

فخلف ذلك اللوح كان يوجد صندوق صغير محكم الاغلاق بقفل قد استوطنه الصدى.
اخذ رياح الصندوق وبكل قوة من اخذ يضرب القفل ليفتح ذلك الصندوق وبعد جهد وعناء حصل ذلك.

فتح رياح الصندوق وكان صندوقاً مليء بالاوراق والصور والمستندات ليس ذلك فحسب فقد وجد ليلى ومعها صورا للطفل ذلك ذو العينين اللامعة..

يا لها من صدمة تجتاح صدر رياح..

ليلى التي كنت ابحث عنها وقتلتها وطفلها تتواجد بصندوقٍ صغير ، يا رب السماء انقذني أنت من مصيبتي كما كانت أمي تقذني من خبث ابن عمي امين.

آه يا ليلى كم كنتِ جميلة وبرئية ولكنكِ سقطتِ بشباكِ الجبان أمين..!

الآن علمت لما احاكوا لي تلك القصة اللعينة ولما يريدون لي الجنون يا ليلى..؟!


نعم يا ليلى.. أنا لستُ زوجكِ ولم أقتلكِ.. أنا من أرادوا له الجنون لتختفي حقيقة زوجكِ اللعين..

نعم أمين كان زوجكِ..!




كان ضياء الشمس المتدفق من النافذة ساطعاً لدرجة منعته من فتح عينيه، "أين أنا؟" تساءل وهو يحك قدميه بعضهما ليستعيد إحساسه بما حوله.


بحركة لا شعورية مد يديه على الوسادة التي تقع بجانب وسادته، "لا أحد، يا لها من راحة عظيمة"

إنه منهك جداً، كأنهم نثروا جسده وأعادوا ترميمه لكنه يشعر إن من الخسارة أن ينام والهواء العليل الذي يتدفق من النافذة، مع هذا سحب الغطاء الأبيض فوق رأسه ليعود للنوم، قفز شيء ما على جسده، وصرخ "أ~~~~~ب~~~~ي"

شعر رياح بالهلع الشديد، وصاح قائلاً " لقد اكتفيت من تلك اللعبة الوضيعة! مرة متزوج وقتلت عائلتي، ومرة تحضرون لي العائلة كاملة. أنت لستَ ابني. كم دفعوا لك؟"

بكاء الطفل بكاءا مزعجا، وخرج من الغرفة، تمسك بثوب امرأة كانت توشك على الدخول للغرفة، وقال "أعتقد إن أبي جن" ، مسح دموعه بثوبها، ربتت على رأسه، وطلبت منه اللعب خارجاً مع أطفال العوائل المجاورة.

قالت المرأة: ماذا قلتَ لهذا الطفل المسكين؟

رياح: ومن أنت أيضاً؟

المرأة: ليلى

رياح: زوجة أمي~~~~~ن. عليك اللعنة. هل سرقتم مالي؟ هل تشعرين بالسعادة؟


ليلى: ولكن من أمين؟ وأي مال؟ ليت لديك مال لسرقته أصلا!

رياح: لن أجن مهما حاولت!

ضربته ليلى على رأسه وقالت بتعجب وسخرية ممزوجة بالحنق والدلال: سقطت في الماء، وغاب وعيك ليومين، وجعلتني أمدد إجازتي، وأدفع ايجارا لهذا المنزل الغالي على البحيرة، لتنام وتحلم إنني أنوي سرقة مالك؟ تبا لك يا رجل!

صمت رياح، ونظر حوله، ثم قال: ماذا؟

ليلى: يبدو إنك بدأت تتذكر! كم مرة أخبرتك أن لا تسبح في البحيرة وأنت لا تجيد السباحة؟ الأمر المخجل إنك زلقت في الحصى في بداية البحيرة قبل أن تصل للماء العميق وأرتطم رأسك، وفقدت الوعي، وأوشكت على الغرق في ماء منخفض.

بدأ جسد رياح بالإهتزاز، ثم تعالت ضحكته، ضحكت ليلى وهي لا تعلم ماذا يحدث، وضعت يدها على جبيته لتعلم إن كان يعاني من حمى، نظرت في عينيه نظرة متسائلة.



فقال: من الأفضل ألا تعرفي!

تمت

رياح .. ولي من إسمي نصيب ، ثائر عاصف أحياناً ساكنٌ حد الموت أحياناً أخرى
أشعر أني إنسان من عالم آخر ، لا أدري هل ماأعيشة وهم أم حلم أم هو واقع ضبابي غير قادر على إستيعابه
أنا رياح المتنبي التي تجري على غير ماتشتهي السفنُ



تمت كتابة القصة بواسطة مجموعة من أعضاء منتدى النادي الثقافي اضغط هنا ضمن نشاط الكتابة الجماعية



الأعضاء المشاركون في الكتابة هم:


-غضون الشذر
-رقي حد الارتواء
-فهيمة رضا
-عبدالله.ص
-جواهر
-ابتسام
-منى
-سمانا السامرائي





إن كنتم تتمنون نهايات أخرى لهذه القصة، نتمنى أن تشاركونا هذه النهايات الجميلة في خانة التعليقات 


3/3/2017



Share on Tumblr

تعليقات