التخطي إلى المحتوى الرئيسي

سبعة عشر دقيقة



سبعة عشر دقيقة




لم تكن لتلحظ إن كان اليوم هو يوم مختلف أم لا في تمام الساعة الثانية ظهراً والشمس تلفع ناصيتها العريضة بشدة في انتظار وصول السائق لكي يقلها إلى المنزل.
وصلت أخيراً السيارة السوداء التي كُسيت بطبقة خفيفة من التراب، ركبت هي وصديقاتها السيارة و كان شعور الركوب في سيارة مبردة بعد انتظار دام لخمس دقائق في الساعة الثانية ظهراً يشبه صوت الماء المسكوب على حديد ساخن.
جلست بالقرب من النافذة في المقعد الخلفي لأنها صاحبة المنزل الأقرب إلى الجامعة. وقد يخيل لك حين تسمعها تصف منزلها ب"قريب" أنه قريب فعلاً للحد الذي يمكنك السير إليه ولكنه في الحقيقة يستغرق سبعة عشر دقيقة بالسيارة إن لم يكن الزحام مترصداً.
غالباً ما تنام خلال هذه الفترة أو تتأمل الطريق ذاته بطرق مغايرة كل مرة وهذا اليوم ليس بإستثناء.
همست صديقتها في أذنها: غداً هو الأول من الشهر الخامس لا تنسي أجرة الحَجّي.
ظهر شبح إبتسامة على شفتيها بينما إلتفت نحو صديقتها وقالت:حسناً... إن شاء الله يصير خير.
عادت للنظر من خلال النافذة إلى شريط حياتها وقالت في نفسها: إلهي ماذا أفعل؟ أنا منهكة. بعدما رحل والدي للجيش لم يحصل على راتب شهري قط (إبتسمت ساخرة من نفسها وأردفت) يا لي من طموحة كبيرة... ليته يحصل على عتاد كافي للدافع عن نفسه، ملابس ملائمة، وطعام يليق بإنسان ليسد به جوعه. لكن ماذا أفعل الآن؟ أستحي أن أطلب من أمي أجرة السائق... إنها كثيرة جداً لقد نفذ تقريباً ميراثها الصغير الذي كانت تحتفظ به لزواج أخي الكبير أو ربما لشراء قطعة أرض أو بضع قطع ذهب لتكون لها كما تقول " زينة و خزينة "، والخياطة هذه الأيام لا تدخل لها شيء يذكر، لماذا توقف الناس عن خياطة ملابس يصمموها لأنفسهم ويرتدون ملابس شبيهة ببعض كأنهم نسخ عديمة النكهة من بعض؟. هل أطلبها من أخي؟ لا إنه يعمل لكي يجمع بالكاد ثمن ما يئد به جوعنا ويحتفظ بأقل القليل من المال لزواجه الذي لا يبدو لي إنه قريب، أشفق بشدة على عروسه التي عليها أن تنتظر للأبد.
نظرت إلى حذائها البالي الذي تشعر بأنه في أي لحظة سيتمزق وستسير حافية وقالت في نفسها: لا أستطيع أن أطلب منهما ثمن حذاء فكيف بأجرة السائق؟ وأنت أيها الحذاء لماذا لا يتحسن مظهرك مهما طليتك بالصِباغ؟ تباً.
أمسكت شالها بطريقة عفوية لكي ترتبه فراعها ملمسه الخشن بعد إن كان يوماً بملمس قطني ناعم جداً وقالت في نفسها: عسى أن يعود والدي فأستطيع تغييره ذات يوم لا أطمح للحصول على شالات عديدة مواكبة للموضة ولكن فقط واحد آخر جديد. متى سيذهب أولئك الأوغاد؟ متى ستنجلي هذه الغمة عن هذه الأمة؟ يا إلهي عجل فرجك فقد تعبت حقاً. أتمنى لو أني مهجرة أو متضررة لكنت حصلت على رعاية المحسنين ولكن أنا من عائلة معروفة ونعيش في بيت محترم. من يتخيل أن شراء الطعام يخيفنا للحد الذي قد لا ننام فيه لنفكر كيف ندبر مال يكفي ليأكل خمس أفراد حتى نهاية الشهر طعام بالكاد يمكن وصفه بأنه قابل للأكل؟ لو كان بإستطاعتي الوقوف في محل والعمل؟ الوقت لا يكفي للدراسة بجانب رعاية البيت فكيف بالعمل؟ حين تأتي العطلة سأتعلم شيء ما وأبدأ بالعمل ( تتنهد والدموع التي حبستها تقفز من عينيها لتبلل وجنتها) أنا أحقد على أولئك الحمقى الذين يظهرون في التلفاز ويقولون بشجاعة "إثني عشر مليون شهرياً لا تكفي لنهاية الشهر" لم أكن يوماً شخصاً حقوداً ولكن إنها إثنا عشر مليون.. أعني إثني عشر مليون إنها رحمة كبرى لأربعة وعشرين عائلة شهرياً. أتمنى أن يعود والدي بسرعة سالماً أنا خائفة. فقد إختفت إبتسامتي، وذاب شغفي بالعلم، انعزلت عن أصدقائي فمواجهتهم مُخجلة لي، ولم أعد أشعر بشيء سوى الألم كما لو إن جسدي يكتسي بجراح نازفة وأسير وسط رياح عاتية مُحملة بالملح. كيف سيأتي ذلك المستقبل المشرق الذي طالما منيت نفسي به ونحن صُنّاعه بهذا اليأس؟.

ما توقف تفكيرها إلا عند وقوف السيارة وهي تتساءل عن سبب وجود هذه الحشود في شارعهم. سألها السائق: هل تعرفين سبب هذا الإزدحام؟
أجابت في حيرة: لا.
نزلت من السيارة والفضول يشدها _ هي الشخص الغير فضولي_ لمعرفة السبب.
سمعت الناس تتداول إسم والدها وأسماء شباب آخرين في الحي.. هل عادوا يا ترى؟ ثم كلما إقتربت من المنزل بدأت تسمع صوت البكاء يتعالى. قالت في نفسها: لا مبرر لكي يبكي الإنسان لهذه الدرجة في أوقات الفرح.
ما إن عبرت باب المنزل حتى سمعت صوت والدتها من نافذة المطبخ وهي تصرخ والدموع تغرق وجنتيها: البقاء في حياتك وهنيئاً لك يا بنت الشهيد.
ضحكت بهستيرية بصوت منخفض والدموع تتناثر كاللؤلؤ من عينيها فليس هذا الخبر الذي كانت تتوقع سماعه على الإطلاق.
لم تستطع العثور على القوة في ساقها لتتقدم خطوة واحدة للأمام وبدا لها الفناء الصغير طويلاً للغاية. ألم قوي سار في ذراعيها وتسلل ببطء نحو قفصها الصدري وكأن شاحنة نقل تضغط على عظامها ثم سمعت صوتاً مدوي وبعدها شعرت بإرتخاء تام من رأسها حتى أخمص قدميها وكأن كل همومها توقفت. سمعت خطوات الموجودين تسرع نحوها وكلماتهم التي بدت غير مفهومة لها تشي بقلق وخوف كبيرين. هل هم قلقون عليها؟ لماذا؟ هل سقطت؟ تسائلت.
شعرت حينها بسعادة غامرة وعقل مرتاح وهادئ لا ضجيج فيه ولاحت إبتسامة على وجهها، حينها سمعت جملة بوضوح تقول " لا بد إنها رأت والدها الشهيد "
فقالت في نفسها: ليس علي الذهاب للجامعة لبضعة أيام ولن أضطر للتفكير بأجرة السائق.
ثم فقدت الوعي تماماً
البداية
"لأن كل نهاية في الحياة بداية جديدة"


إقرأ أيضاً ما بعد الظهيرة
سمانا السامرائي
21/9/2015 10:25 ص
الاثنين


Share on Tumblr

تعليقات

  1. اتمنى ان تنجلي هذه الغمه عن هذه الامه
    كلام رائع سمانا لقد اقشعر جلدي
    انا اهرب من هذا المشاهد على التلفاز لاجدك تصورينها كما الواقع
    انت كاتبه مميزه عندي

    ردحذف
    الردود
    1. شكراً حقاً لزيارة المدونة وترك تعليق ... آسفة لأنني تسببت بالألم لقلبك وأرجو أن تسامحيني.. شكراً لأنك تريني هكذا

      حذف

إرسال تعليق