التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الرياضيات



الرياضيات




إنها المحاضرة الأولى من مادة الرياضيات لهذا العام والساعة هي الثانية عشر وثلاثون دقيقة مساءا، الكل يشعر بإرهاق شديد وأنا بالتأكيد واحدة منهم وخاصة إنني لا أحب الرياضيات و لا قسم الهندسة الذي أدرسه.
فتح الأستاذ الباب نظرت إليه نظرة سريعة خالية من الاهتمام، كان الأستاذ ذو البشرة السمراء، يرتدي بذلة رمادية وحذاء بني، ويضع على معصمه ساعة ذهبية، ونظاراته كانت بإطارات بنية تميل للاحمرار قليلا.
ليس من عادتي أن أحكم على البشر من مظهرهم الخارجي لكني هذه المرة قلت في داخلي" كيف يستطيع بدر شاكر السياب تدريسنا مادة الرياضيات؟ على الأرجح إننا سنعاني سنة عصيبة".
ثم استغفرت الله لأوقف نفسي عند حدها فالحكم من المظاهر أمر لا أستطيع قبوله من الآخرين والقيام به يعد تناقضا حقيقيا وأنا لا أقبل لنفسي هذا.
خطى الأستاذ بضع خطوات ثابتة على المنصة، وضع حقيبته على الطاولة فتحها وكأنه طبيب واخرج منها أوراقا ثم أغلقها.
وقف الأستاذ أمامنا بثقة وعرفنا بنفسه وأخبرنا عن سنة تخرجه وسنة حيازته على شهادة الماجستير والجامعة التي درس فيها وكل ذلك بإيجاز شديد، استطعت من كلامه تقدير عمره من فهو في الثانية والثلاثون او الثالثة والثلاثون  ولكنه يبدو أكبر من ذلك بكثير.
سألنا إن كنا بخير ثلاث مرات ثم ضحك قائلا " لا يمكن دراسة الرياضيات في المحاضرة الأخيرة"
سألنا عن حبنا للرياضيات وشغفنا بها، وأغلبنا أجبنا بأننا لا نحب بالرياضيات لأنها صعبة للغاية.
كان الأستاذ يتحرك بهدوء وثبات على المنصة وقال بصوت واضح: تحبون ألعاب الفيديو، أليس كذلك؟
أجبنا ب" نعم، مؤكد"
ظهرت إبتسامة على وجهه ثم قال " هل الألعاب في بدايتها سهلة أم صعبة؟"
قلت: سهلة (فكرت في الألعاب البسيطة ذات المراحل المتعددة)
بينما قال الطلاب صعبة لأننا لا نعلم عنها أي شيء.
قال طالب جهلت هويته: سأقرأ التعليمات والإرشادات.
فكرت في جملته طويلا فنحن من المؤكد نحتاج لنقرأ ونبذل جهدا لنتقدم وعلينا الاستفادة من خبرات الآخرين أيضا.
قال الأستاذ: الألعاب والرياضيات متماثلتان تحتاج لتدريب وتكرار ثم سيصبح لديك كل شيء سهل.
ساد الصمت في القاعة، الكل يركز على ما يقوله هذا الأستاذ.
أبتلع الأستاذ ريقه وأردف قائلا: عندما تلعب أنت تستمتع بما تفعله وتستمتع أيضا بالمصاعب و إيجادك الحلول لها وذلك لكونك لست مجبرا على اللعب، ولست متوترا أيضا بينما عندما تدرس الرياضيات فأعصابك مشدودة وأنت خائف دوما من الفشل. وأراهن إن بإمكانكم قضاء ساعات متواصلة وأنتم منهمكون باللعب ولا يمكنكم قضاء أكثر من خمس دقائق في دراسة الرياضيات.
إبتسمت لأنني شعرت إنه قد راني سابقا أثناء دراستي للرياضيات.
ثم قال بعينين لامعتين: كان هنالك طالب متفوق جدا ولكن في مرحلة ما، رسب في كل امتحانات الشهر الأول وقرر تقديم طلب لتأجيل العام الدراسي، ولأن طلب التأجيل كان في السابق يستغرق ما يزيد على شهر ليتم قبوله، قرر ذلك الطالب مواصلة الحضور للجامعة والإطلاع على المادة العلمية للاستفادة منها العام المقبل، وخضع لامتحانات الشهر الثاني دون خوف أو أدنى اكتراث ولكن ما فاجئ ذلك الطالب إنه أحرز درجات عالية.
قلت في نفسي: و ذلك الطالب كان أنت أيها الأستاذ. أليس كذلك؟
أكمل الأستاذ حديثه قائلا: ذلك الطالب كان مستمتعا بالعلم وحريصا على المعلومة أكثر من الدرجة. خوفكم ما يمنعكم فعلا من رؤية جمال الرياضيات والاستمتاع به... نحن لا نريد دراسة من أجل النجاح، نحن نريد دراسة من أجل زيادة المعلومات.  أسأل دائما ، لا تخجل فلا يوجد سؤال سخيف أو سؤال سيء كل الأسئلة هي أسئلة نافعة.
قلت في نفسي: توقعت إن أناس مثلك انقرضوا منذ وقت طويل.
كلماته الهادئة وموزونة دخلت في أعماقي، تواصلت مع أفكاري وكانت نوعا من أنواع الشفاء.
ثم تذكرت علم الهيولية الذي ما كان ليكتشف لولا الأسئلة السخيفة..
وبينما الأستاذ كان مستغرقا في التحدث عن الرياضيات.. أردت ذكر ملاحظة رأيتها في مكان ما سابقا " الرياضيات هو المادة الوحيدة التي ليست قابلة للتغيير تبعا لتغيير اللغة ولهذا يمكن فهمها في أي بقعة من بقاع الأرض"
إلا إن الهالة حول الأستاذ منعتني من تحريك شفاهي، صدقا كنت أشعر إنني منومة مغناطيسيا.
لم أشعر إن هناك أحد غيري ولم أرى الأستاذ جيدا بالقدر الذي رأيت كلماته بشكل جلي.
اتخذت عدة قرارات بينما كنت أستمع له، يبدو لي إنني أردت اتخاذ هذه القرارات منذ مدة طويلة لكني كنت خائفة من ألا تكون صحيحة، أو إنني كنت متساهلة مع نفسي أكثر من اللازم، أو إن قدرتي على التفكير بإيجابية كانت تحتاج لشحن بكلمات حقيقية نابعة من شخص يكون مثالا لما يقوله من كلمات.
ومن تلك القرارات إنني سأصبح صديقة للرياضيات والمواد الأخرى وسأحاول البحث عن السحر فيها ونقاط الجمال والقوة التي قد تمنحني العلوم إياها لحين إنتهاء دراستي.
أتمنى ان يكون الأستاذ جيدا بقدر جمال إنطباعى الأول عنه ، الأيام القادمة ستريني ما أتطلع لرؤيته لذا أنا لست فضولية كثيرا.
النهاية
1:41م
السبت 2013-09-28

تعليقات

  1. اسلوب راااااااائع يصورك و انتي في منتهى السعادة التي تنتج عن امل ان هذا العالم الموحش فيه جانب مضيئ , مع القلق الناتج من مجموع من خيبات الامل السابقة ناتجة عن توقعات ايجابية مفرطة ( بالنسبة لواقعنا )
    واصلي تقدمك , فايتغ توتة ^-^

    ردحذف
  2. اسلوب راااااااائع يصورك و انتي في منتهى السعادة التي تنتج عن امل ان هذا العالم الموحش فيه جانب مضيئ , مع القلق الناتج من مجموع من خيبات الامل السابقة ناتجة عن توقعات ايجابية مفرطة ( بالنسبة لواقعنا )
    واصلي تقدمك , فايتغ توتة ^-^

    ردحذف
  3. لقد أخجلتني بتعليقاتك الجميلة وأسعدتني للغاية..
    علينا دائما التحلي بالأمل حتى وإن كان الواقع مختلفا ... إنك واحدة من المتفائلات اللطيفات القلائل اللواتي عرفتهن في حياتي.
    ملاحظة:حبيت أسم توتة

    ردحذف
  4. غير معرف7/08/2014 11:53 ص

    قصة جميلة تجعلك تنظرللنصف المملوء من الكاس اتمنى لك المزيد من الابداع
    جوج

    ردحذف

إرسال تعليق