التخطي إلى المحتوى الرئيسي

جار جديد


  جار جديد

 


1
"سأغادر حبيبي لسنة واحدة وأعود... أنت تعلم علي إجراء المزيد من البحوث عن أثار السودان ولن ينفع ذهابي لشهر واحد كما في المرات السابقة
 وفي هذه الأثناء سأؤجر شقتي لفتاة طيبة ولطيفة لن تزعجك.
أتمنى أن لا تعارض فهذا حلمي وأنت تعلم جيدا كم تمنيت ذلك"
غادرت خطيبتي التي كانت تسكن في الشقة المقابلة تماما لشقتي بعد أسبوع من قولها هذه الكلمات كما إنها قالت جملتها الأخيرة لتخرسني فقط لأنها تعلم جيدا إنني كنت أود أن نجري مراسيم زفافنا في الخريف القادم.
2
كان علي تقبل الواقع الجدي جارة جديدة، ورحيل خطيبتي أمران احدهما أصعب من الأخر مما جعلني محبطا لا أزور أسرتي وأصدقائي من العمل إلى الشقة ومن الشقة إلى العمل.
ومما زاد صعوبة الوضع علي الضجيج الذي تصدره الجارة الجديدة .
وفي أحد الأيام لم أحتمل ضجيج الجارة الجديدة فذهبت لتوبيخها، طرقت باب مسكنها، فخرجت لي فتاة شابة ترتدي بيجامة رياضية طولها معتدل وملامحها جميلة،وشفاهها منتفخة، وعينيها لامعتين كبيرتين، وبشرة صافية بقوام ممتلئ ذو الخصر الصغير.
لم أستطع منع عيناي من التحديق بجسدها الملفوف ومما لفت انتباهي إنها كانت ملطخة ببقع الطعام وشعرها مبعثر.
قالت:عفوا، ماذا تريد؟
قلت:آه، أعتقد إني نسيت... لحظة أنا أتيت لتهنئتك لقدومك للمنزل الجديد.
قالت:في الساعة العاشرة ليلا ؟ وأنت ترتدي بيجامة؟
شعرت بإحراج شديد وقلت:آه، اعتقد إني تذكرت سبب قدومي، الصوت مرتفع أرجو أن تخفضيه.
ابتسمت وبلطف وخجل قالت:أوه آسفة حقا هل الصوت عال؟ الأطفال يحبون رفع درجة الصوت.
قلت: لا بأس، لا بأس، لا عليك، على كل حال أنا باهر تشرفت بمعرفتك.
قالت: انا رفيف مرحبا بك.
ثم تعالى صوت صراخ طفلة فاستأذنت وذهبت مسرعة.
في الأيام التالية فكرت مليا في إجراء زيارة تهنئة لجيراني الجدد ولكن لكوني أعزب وقد تأملت تلك المرأة بتبجح ترددت قليلا ثم اعتزمت على المضي قدما وإجراء زيارة فليس من اللطيف أن أقابل زوج جارتنا الجديدة وأقول مرحبا "هل لك مساعدتي في حمل أمتعتي؟" وأنا لم أكلف نفسي عناء زيارتهم.
وبالفعل ذهبت لزيارة بيت جارتنا الجديدة عند الخامسة مساءا من يوم الجمعة.
طرقت الباب مرات متعددة فلم اسمع أي رد أو ضجيج يرافق قدوم الزوار ثم فتحت الجارة المنزل وعينيها نصف مغلقتين وكانت ترتدي جلابية تقليدية  فأدركت حينها إنها كانت في زيارة مرهقة لعائلة زوجها.. يا لي من عبقري!
سألتني عن سبب قدومي فذكرت التهنئة وكم إني خجل لأني تأخرت كل هذه المدة
فأذهلتني بجوابها حين قالت:لا أحد في البيت غيري ولن أستطيع إدخالك...ولا داعي لزيارة التهنئة فبالفعل مضى على وجودي هنا شهر ونصف.
فقلت: لا، أنا مصر على زيارتكم. متى سيعود زوجك؟
فضحكت بلطف قائلة:انا طالبة في المرحلة الثالثة من كلية التربية قسم علوم الحياة لست متزوجة.والأطفال... إنهم عملي الجزئي.
آه فهمت الآن أعتقد إن علي إلإنصراف بسرعة قلت محدثا نفسي... أعطيتها علبة الشوكولا وخالص أمنياتي بعيش هنيء وانصرفت... يا لي من أحمق!
3
 مر يوم ويوم آخر ثم أسبوع وأسبوع آخر والضجة لم تتوقف لم أستطيع النوم حتى مغادرة أخر طفل قد يكون ذلك في الثانية صباحا او ربما أكثر.
وفي يوم كنت واقفا أمام باب شقتي شممت رائحة شيء حلو يتسرب من منزل جارتنا رفيف، كنت حينها أشعر بالجوع  والرائحة زادتني طمعا بالطعام حتى إنني وقفت لعدة دقائق أمام باب شقة الجارة لاشعوريا.
استطعت التحكم في نفسي وإدخالها للشقة اتصلت وطلبت من المطعم بعض الشطائر و بيتزا، تناولتها وخلدت إلى النوم.
حلمت باني أطير على متن طائرة وحصل عطل بها وبدأت تهتز حتى كادت أن تسقط توقف قلبي فاستيقظت وعلمت حينها إن المشكلة لم تكن في الطائرة ولكنه الضيف الذي يطرق الباب بقوة.
فتحت الباب وكانت تعبيرات وجهي أسوء من كيس مجعد ولكن سرعان ما تغير شكل وجهي بعدما رأيت جارتنا رفيف أين ذهب انزعاجي؟ أنا لا اعلم ايضا ليس لدي أي فكرة.
أعطتني جارتنا صندوق جميل فسألتها عن محتوياته فأجابتني وهي كأنما تحدق في شيء خلفي أو داخلي قائلة: إنني أحرزت أعلى درجة في امتحان ما، وهذه حلوى السمسم أعددتها بنفسي لأشارك فرحتي مع من في هذا المبنى.
فضحكت ضحكة خفيفة وقلت: تهانينا. هل تتفاخرين الآن؟
أرجعت شعرها خلف أذنها وقالت: الأشخاص الفاشلون ربما.. سيشعرون إنني أتفاخر بنجاحي بينما الأشخاص الناجحون سيسرون من أجلي.
هل تقصد إنني فاشل؟ أردت ان اصرخ في وجهها أو أسمعها كلام جارح لكن منعت نفسي لأنني اعلم إنها عانت كثيرا حتى حصلت على أعلى درجة . كيف علمت انا لا أعرف لكن يمكنني توقع هذا.
أعطتني العلبة وغادرت فأسرعت إلى داخل شقتي لكي افتحها كانت العلبة جميلة للغاية وتبدو صنعا منزليا أيضا والحلوى هي مصاص السكر والسمسم. بدت حلوى بسيطة لكنها في غاية... غاية... لا اعرف لكنها أسعدتني.
4
بعد أيام حدث لي شيء سار جدا فقمت بدعوة أصدقائي إلى إحدى المطاعم و قضيت وقتا مرحا ثم في طريق عودتي تذكرت جارتنا رفيف و مشاركة السعادة  أوقفت سيارتي ونزلت اشتري شيئا من السوبر ماركت لأشارك سعادتي لكن ما الذي  علي شراءه؟ هذا الذي لم اعرفه!!!
اشتريت مشروبات غازية وأكياس كبيرة من رقائق البطاطا وأكواب الجبن التي أفضل تناولها مع الرقائق وعندما عدت إلى المبنى قرعت باب احد الشقق الأربعة الموجودة في طابق وأعطيتها ما أعددته لها وكذلك فعلت مع العائلة الثانية وحين وصلت لشقة جارتنا رفيف تراجعت وفتحت باب شقتي بدلا من طرق باب شقتها، ستظن بي ظنا سيئا، فكرت قليلا ثم ذهبت لباب شقتها لأنها هي من علمتني المشاركة ... ثم خطرت في بالي فكرة ثانية. ماذا إن أدركت إنني تعلمت منها؟ ستحسبني جاهلا وهذا يهين كبريائي..
وظللت أتردد أمام باب شقتها حتى خرجت بشكل مفاجئ وقالت متسائلة: هل هناك أمر ما؟
فقلت وبكل ثقة لأبدو ساحرا كعادتي طبعا_ أنا رجل متواضع_: ماذا حصل؟
فقالت وقد أرجعت شعرها خلف أذنها: هناك طفل انتبه إلى وجود ظل وحش يظهر ويختفي...  إن مخيلته واسعة.. بعض الشيء.
فقلت:ما أجمل مخيلة الأطفال! لقد مررت لكي أعطيك هذا.. إنني أشاركك فرحتي.
إبتسمت بعذوبة،أخذت الكيس، وشكرتني ثم أوشكت على الذهاب ثم استدارت نحوي ثانية قائلة: هل هناك شيء تريد التفاخر به ؟ هذا من حقك... أنا أسمع.. هذا هو اعتذاري.
فضحكت من قلبي قائلا: هل هناك شيء تعتذري لي بشأنه؟ تصبحين على خير.
5
سافرت ليومين للتنزه فأنا أفضل التنزه في الشتاء أكثر من أي وقت.
وعند عودتي خرجت جارتنا رفيف من مسكنها ما إن وقفت أمام باب شقتي وقالت وهي قلقة: أين كنت أيها السيد؟
قلت:وهل أنت قلقة بشأني؟
اضطربت وقالت بانزعاج : لقد أوقعت مفتاح شقتك وانا عثرت عليه...
قلت:إذن انتظرتني؟
فقالت بعد إن أرجعت شعرها من الجهة اليمنى خلف أذنها بصوت واضح : مؤكد انتظرتك لأنه أمانة.
لا اعرف ما الذي رأيته في عينيها أهو امتعاض أم صدمة أم حزن؟ لكن على أي حال أخرستني وجعلتني مستاءا من نفسي إنها تجبرني على احترامها.
6
من أكثر الأشياء المحرجة التي حصلت لي هم أصدقائي إنه مضحكون خفيفو الظل ولكن أحيانا خانقين لا يعرفون معنى التصرف اللائق وخاصة عندما تكون أمامهم فتاة جميلة كجارتنا يتحولون إلى وحوش.
انا أصبح شيئا فشيئا أكثر نضجا وأكثر احتراما كما إني أصبح أكثر حساسية تجاه جارتنا رفيف بصورة خاصة لأنها فتاة جيدة وجميلة ...
حسنا سأعترف أنا أشعر بالخجل من نفسي لانني ظننتها في بادئ الأمر فتاة جميلة يمكنني التلاعب بها ثم ظننتها متزوجة ثم سمحت لعقلي ان يظن إنها معجبة بي.
غالبا ما يمر أصدقائي لإصطحابي في جولة أو او للتسكع في منزلي وفي إحدى المرات صادفوا جارتنا رفيف.. بصدق شعرت بخوف عليها، يمكنهم أن يأكلوها بكلامهم.
وبالفعل أول ما رأوها قالوا: أنت جميلة ؟ تعيشين وحدك؟ هل لك زيارتنا؟ هل تقومين برعاية هذا الصديق الوسيم هنا؟
قامت بتفاديهم بطريقة راقية وحين لم يتوقفوا وبدأ كلامهم يتخذ منحىً قاسيا، غلا الدم في عروقي وصرختُ: ألا يكفي هذا لليوم ؟
فتجرأت هي على القول: لو كنتم رجالا لكنتم حافظتم على كرامتكم. أنتم عديمو النفع.
فقلت بحماس وسعادة:محقة جارتنا. معك كّ~ل الحق.
التفت إلي أصدقائي وجارتنا وفي أعينهم نظرة غريبة.
ثم قالت جارتنا: كل قرين بالمقارن يقتدي . أليس كذلك؟
لم يسكت أصدقائي عن الضحك وحينها فقط أدركت إن علي القيام بعمليات إصلاح في مجموعة أصدقائي.
7
عدت لشقتي بعد شرائي مصباحا بساق طويلة من احد متاجر الديكور كهدية لنفسي بمناسبة عيد ميلادي. أخرجت المفتاح من جيبي وفتحت باب شقتي، هممت بالدخول وحينها سمعت صوت جارتنا رفيف تقول لي : لحظة، أنتظر.
قلت: سأدخل الأغراض وأعود.
كنت متلهفا لرؤيتها وسعيدا لأنها قررت التحدث إلي أخيراً. المكان، الموضوع ليست أمورا مهمة بالنسبة لي، المهم رغبتها بالتحدث إلي.
فقالت ثانية: معذرة !! هل لك أن تنتظر علي أن...
فقلت: سأعود بسرعة.
دخلت لمسكني حاملا المصباح فشعرت إن ساق المصباح مقيد بشيء ما، أدرت وجهي فلم يكن الشيء سوى سترة جارتنا الصوفية المحاكة بعناية وتبدو باهظة الثمن.
فاعتذرت بشدة عن موقفي المتسرع فقالت بخيبة أمل: لقد أتلفته أيها السيد.
فقلت لها:سأصلحه غدا. هل تقبلين ذلك؟
تعجبت مما قلته فقال والحيرة تغطي محياها: أيها السيد. هل تظن إنك قادر على ذلك؟
فقلت وقد أمسكت ضحكة راودتني:بالطبع. قد لا أحب العمل في الأزياء لكني درست الأزياء في الجامعة.
فقالت (بخجل): سأكون ممتنة إن أصلحتها.
لأول مرة في حياتي أعرف فائدة دراستي للأزياء لقد شعرت بأنني أجيد حرفة مهمة يمكن التباهي بها وقد جعلت جارتنا تندهش وتكن لي بعض الاحترام.
8
انتظرت بلهفة قدوم جارتنا رفيف في اليوم التالي لتسأل عن سترتها التي قمت بإصلاحها بكل عناية ... انتظرت ساعة وانتظرت ساعة أخرى وبدأ الوقت يقترب إلى المغيب وهي في هذا الوقت لن تأتي إلى بيت أعزب وحيد.
أقدر تحفظها هذا لكن... أنا وددت أن أتأسف لها وأخبرها لماذا درست الأزياء.
من الأفضل لي إنها لم تأتي لأني سأعتبر وقحا ومخيفا وربما ستراني رجلا يحاول العبث بها من جهة نظرها المتحفظة إن فتحت فمي بأي كلمة.
نحن لسنا مقربين لكني أشعر وكأني أعرفها وأفهم ما الذي تريد قوله وما الذي قد تفعله الآن، هي لم تخبرني بهذا لكن شعوري وكأنها فرد من عائلتي يزيد يوما بعد يوم.
وضعت السترة في كيس ووضعته أمام باب شقتها ورننت الجرس ثم اختبأت بمكان أستطيع رؤيتها منه.
خرجت بعد دقائق وعلى وجهها نظرة تعجب كبيرة، بحثت يمينا ويسارا وحين لم تجد أحدا أرجعت شعرها خلف أذنيها، وانحنت للالتقاط الكيس... لاحت على وجهها ابتسامة مشرقة ثم جلست القرفصاء وأخرجت السترة تتأملها بسعادة.
لقد كانت تتساءل هل من الممكن إنني أنا من أصلحتها بنفسي؟ هذا الرجل الموهوب لماذا لم يعمل في تصميم الأزياء؟
كيف عرفت إنها تفكر بهذه الطريقة؟ لأنني أعرف فقط.
9
إنه ذلك الشعور بالاعتياد ممزوجا باحترام وشوق لكيان العام.... لم يكن حبا بل كان راحة وسكونا روحيا.
شعرت بالاضطراب في الأيام التي لم يكن في وسعي رؤيتها والاطمئنان عليها. لم تبدو لي إنها فتاة ضعيفة أبدا وهذا ما قد يجعلني أقلق عليها أكثر. ماذا إن وقعت في مشكلة؟ لن تطلب المساعدة أبدا.
كما أن هناك شعور يزداد يوما بعد يوم هو إنني أعرف ما تفكر فيه وكيف ستتصرف وكيف ستجيب علي.
10
شممت رائحة سكر محروق .. كنت على وشك النوم لكن الرائحة ذكرتني بحلوى السمسم. هل هي سعيدة الآن؟ هل تريد أن تشارك فرحتها ثانية؟
خرجت من غرفتي ولكن الرائحة اختفت هل كنت أتخيل إذن؟
لكني لست مطمئنا لا اشعر بالراحة سأذهب لأطمئن عليها لكن بأي حجة؟؟؟ لا يهمني كثيرا لأنها ستبعدني مهما كانت حجتي قوية.
ارتديت ملابس ملائمة وخرجت مسرعا طرقت باب شقتها.
فتحت الباب وردت السلام بأدب  طلبت منها أن أدخل لشرب الشاي معها فقالت مبتسمة : أنت تعلم إنني أعيش وحدي والساعة الآن السابعة مساءا وإنني من المستحيل ان أدخلك. هل تحاول ان تحرج نفسك؟
فقلت: لا يوجد كلمة مستحيل سوى في قاموس الفاشلين، كما إني متأكد إنك في ورطة الآن كيف لا أعلم ... شعور داخلي.
أرجعت شعرها خلف أذنها وقالت وهي تتظاهر بأنها على ما يرام:حسنا. لا يمكن الإعتماد على الحدس دائما.
فقلت: هذه المرة أنا أثق بحدسي... اسمحي لي ان أساعدك لأنك إن لم تسمحي لي لن أتزحزح عن عتبة الباب وهذا النوع من الفضائح لا تحبه جارتنا رفيف.(تفكر) لن أزعجك  ولن أذكر ذلك أمام أي بشر.. وعد.
فقالت:أدخل بسرعة قبل أني يأتي أحد.
إنها حتما تشعر بما أشعر به "الراحة" وإلا لم تكن لتدخلني من عتبة بابها.
تبعتها لأجلس في المكان الذي اختارت لي الجلوس فيه ثم توقفت فجأة و وأستادرت نحوي, أرجعت شعرها خلف أذنها اليمنى ثم قالت وقد جفت عروقها:أنت هنا لتساعديني صحيح؟
فقلت مبتسما: نعم.
قالت:أنا أرعى يوميا ثمانية أطفال لكني اليوم قبلت أربعة فقط.
قلت:سأساعدك في رعايتهم.
ثم سمعت صوت طفل صغير يبكي بل يصرخ ألتفت فوجدته مستلق في سريره المحمول على الأرض.
قالت: إنه مريض بشدة.
فقلت:سآخذه للمستشفى.
قالت بهدوء وخوف كامن:هل تحسب إن الأمر بهذه السهولة؟ لا يمكنني ذلك إن عادوا ولم يجدوه.. إن علموا إنه مريض أتعلم ماذا سيقولون؟ أنا من لم اعتن به.  
فقلت:وإن حصل له مكروه سيقولون لمَ لم تفعلي شيئا؟سآخذه للمستشفى ... الآن.
قالت وهي تحدق في الأرض:وإن علموا إنك هنا لن يحضروا أي طفلا مجددا.
حملت سريره ولم استمع لها فكل ما كانت تقوله كان غير منطقيا فقط لأنه نابع من المسؤولية والخوف.
أرادت أن تأتي برفقتي فمنعتها لأن على أحد رعاية الأطفال الثلاثة الذين تتراوح أعمارهم من سنة لثلاث سنوات.
في السيارة شكرت الطفل المريض الذي منحني الفرصة لرؤية هذا الجانب منها ومساعدتها... هذا قد عنى لي الكثير، سيكون لي بعض الحق في القول إني أعرفها.
حينما عدت للشقة سألتني بقلق عن الطفل الذي تركته في شقتي لأختبر ردة فعلها.
قلت متصنعا عدم المبالاة: حسنا لقد أعطوه بعض الحقن وقالوا إنه سيصبح بخير إن بقي تحت العناية المركزة... لقد ظنوا إني والده.
قالت فزعة تماما: ماذا تركته في المستشفى؟
لم اجبها وذهبت لشقتي فتبعتني بكل هدوء شعرت في لحظة ما إنها على وشك قتلي.
فتحت باب شقتي وحملت سرير الطفل الذي كان نائما وأشرت إليه والابتسامة تعلو محياي فقالت بصوت منخفض حاد ومرعب: لماذا فعلت ذلك؟
لم انطق بحرف واحد لأني لو فعلت لكنت سأذهب في رحلة تخييم إلى زحل.
حملت الطفل وتبعتها إلى شقتها، اتخذت لنفسها مكانا في الزاوية إلى جانب أكداس من ألأوراق وحاسوب لوحي وظلت جالسة على هذه الحالة دون كلمة واحدة حتى عودة  الأباء في  الثانية صباحا.
جلست تدرس كالآلة ويديها ترتعشان وعينيها مفتوحة... لم تطلب مني المغادرة رغم إن الأطفال كانوا يغطون في نوم عميق ربما لأنها ارتاحت لي أو لأنها لم تتنبه لوجودي..
مهما كان السبب لا يهمني الأمر لأنها منحتني وقتا أستطيع مراقبته خلاله.
لقد تعرفت على جوانب جديدة فيها ... جوانب مدهشة وهو حسها بالمسؤولية وضميرها الحي وجهها المخيف وحبها للدراسة.
قرع الباب وصل الأباء وقفت وقالت بإبتسامة: لقد وصل إباؤكم وأمهاتكم لنسعد لرؤيتهم.
اتجهت نحو المرآة لترتب شعرها فرأتني وقالت متفاجئة :ما الذي تفعله هنا؟
قلت ضاحكا: أنا لم أغادر.
قالت وجلة: ماذا علي أن أفعل ؟
أمسكتْ برأسها وقالت: فلتذهب إلى غرفتي.
هذه المرة لم أفهمها خطأ.
بقيت بالغرفة هناك حتى ذهاب الأباء.
وفي غرفتها عرفت جانبا أخر منها دفعني لاحترمها أكثر وأقدرها وهو إن غرفتها مرتبة ونظيفة وأنيقة وفي الحقيقة هذه المرة الأولى لي التي أدخل فيها إلى غرفة فتاة مرتبة بهذا الشكل، فغرفة أختي كانت مرادفا لكلمة فوضى بينما خطيبتي.... خطيب... خطيبة من؟
لقد نسيتها تلك الفتاة لم تتصل ولا مرة لا بد إنها تعيش قصة حب رائعة مع أحد علماء الآثار الذين يحبون التنقل والسفر عبر الـتأريخ... هي لا تريد أن تتزوجني.
هذا جيد لأني لا أريد ذلك أيضا، كيف بإمكاني إنجاب أولاد وعيش حياة طبيعية مع رحالة مثلها... تبا.
بترك خطيبتي جانبا فأنا يكاد أن يغمى علي من النعاس ولذلك أخذت قيلولة أيقظتني منها جارتنا رفيف بعد دقيقة واحدة وطردتني بعد كل خدماتي بطريقة مهذبة خارج منزلها.
11
بعد ذلك اليوم اعتبرت نفسي صديقها وتوقعت إنها تعتبرني صديق لها وهذا كان خطأي الذي تسبب في إبعادي إلى نقطة أبعد من تلك التي انطلقت منها.
استيقظت مبكرا في صباحا ربيعي جميل من حسن حظي إني سمعت صوت حركة.. لا بد إنها الآنسة رفيف... لماذا أنا واثق لهذه الدرجة؟... كالعادة لا أعرف السبب.
غيرت ملابسي بسرعة البرق وخرجت لأرها فقد مر وقت طويل منذ أن رأيتها.
كانت جارتنا تحمل حقائب تبدو ثقيلة ومجهدة لها للغاية فهببت لمساعدتها فقالت بحياء: شكرا لك، يمكنني حملها وحدي.
فأصررت على مساعدتها في حمل الحقائب فقالت بصوت متقطع: يمكنني .. حملها.
أحمرت وجنتيها وأمسكت يد بيد بقوة وتشنج وهذا من شدة حيائها فحملتها دونما أطلب أذنها.
كنت على وشك النزول من المصعد لكني وجدتها تنزل من السلم فتبعتها وقلت:التعاون أمر جوهري في هذه الحياة... فالحيوانات تتعاون لتعيش... والبشر عليهم أن يتعاونوا أيضا.       لو كان بإمكاني زرع شيء لزرعت التعاون والمساعدة في قلوب البشر.. ليس فقط حب المساعدة إنما القدرة على تقبلها أيضا. عدم استطاعة المرء على تقبل أمر ما هو لأنه لا يستطيع مشاركته... تماما كالبلوتوت إن لم تقومي بتشغيله فلا يمكنك استقبال الملفات ولا مشاركتها.
قالت:إممم ..فكرة!.... ولكن ألا يمكنني أن أرسله عبر الإنترنت؟.
كنت متعبا من حمل الحقائب وكنت أشعر بالاستياء لأنها لم تفهمني فقلت وانا ألهث: لو حدث عطل في شبكة الإنترنت لن ترسلي ولن تستقبلي شيئا.
فقالت بتفكر:صحيح، أنت محق... شكرا لك لقد وصلنا لنصف الطريق يمكنني حمل الحقائب لما تبقى منه.
رفضت رفضا قاطعا.
استمر سكوتنا حتى وصلنا لنهاية السلم فسألت جارتنا رفيف عن سبب حملها لهذه الحقائب الثقيلة؟ ولماذا هي ثقيلة؟
فأجابتني وببسمة حاولت أن تخفيها: إنني وضعت فيها رملا، لأني أتدرب يوميا حاملة هذه الحقائب صعودا ونزولا لشقتي... والآن سأصعد مجددا لشقتي.
مجددا بدوت كأحمق أمامها... هل يمكن لأحد أن يأتي ويقتلني رجاءا؟.
12
لم تتصل خطيبتي طوال ستة أشهر وأنا لا اعرف عنها أي معلومة ممكن أن توصلني إليها وأعتقدت إنها كانت تقول لي وداعا بطريقة غير مهذبة.
مررت في وقت حاكمت نفسي فيه على خيانة لم أرتكبها وتقصير لم أقربه وأصبحت غاضبا من نفسي، ثم أدركت إنني لم أريد أن أعيش مع إمرأة ستتركني لأشعر بكل هذا الثقل وحيدا وتمرح هي هنا وهناك.
أنا إلى الآن لم أتقبل عملها ولا أفهم ما الفائدة العظمى من التنقيب عن الآثار، فالحاضر والمستقبل بالنسبة لي أهم من أي شي يمكنها أن تكون عالمة أو طبيبة أو أي شيء ممكن بعمله أن يقدم خيرا للبشرية ويسهم بتطورها.
أنا لا أغضب إلا حين امتلك سببا وجيها، وحين أغضب أكون أكثر رعبا من بركان ثائر... رغم إني أكره الغضب إلا إن مجرد تفكيري بها يجعلني أرغب بتحطيم المنزل.
ولكن لدي سر يجعلني أهدئ وهو تذكر جارتنا رفيف... اعتقد إنني أدمنت على رؤيتها وسماع صوتها، وفي اليوم الذي لا أراها فيه ينتابني ذلك الشعور بالحاجة والاختناق كأني مقيد بسلاسل في كابوس أبحث فيه عن منقذي ولا أستطيع الحركة لإيجاده.
عندما تجوع تأكل، وعندما تتعب تنام، ولكن عندما تفتقد عينيك شخصا لا تستطيع رؤيته تصاب بالجنون.
13
في يوم ما بشدة وددت التحدث معها بشدة وحالفني الحظ بمصادفتها عن رجوعي للشقة فقلت بكل جدية: لدي أمر أود مناقشته معك. هل يمكنك مرافقتي إلى مكان عام ؟
فرفضت الذهاب لمكان من الممكن ان يراها فيه أحد يعرفها.
فقلت:هل نذهب للسطح؟
فأعجبت بالفكرة وتسلسلنا إلى الأعلى خلسة دون أن يرانا أحد،_كان الوضع مضحكا للغاية_ وحين وصلنا إلى السطح سألتني عن الذي وددت ان أكلمها به.
ماذا؟ وددت ان أكلمها بشأنه؟ ليس في رأسي شيء، لم أحضر أي حديث، هل اعترف ؟، أعترف بماذا؟ فأنا لا أعرف ما الذي أشعر به تجاهها، أهو فقط إدمان على رؤيتها أم أحمل لها في قلبي نوع من المشاعر الجميلة؟  وأنا مستغرق في التفكير سألتني قائلة: هل نسيت  كلامك؟ هل يمكنني الذهاب؟... الجو بارد.
فارتبكت قائلا:أردت.. أردت. لا تذهبي لنلعب لعبة أشياء جميلة.
أرجعت شعرها الأسود خلف أذنيها وابتسمت ابتسامة وقورة ثم قالت:حسنا. لنلعب ولكن أشرح لي قواعد اللعبة.
جلسنا على جزء بارز من الجدار وقلت: قواعد اللعبة بسيطة جدا، أنا أقول حرفا وأحدد وقتا لتعطيني عددا من الكلمات يبدأ بهذا الحرف. لنبدأ بالحرف "أ" وأريد أربع كلمات تبدأ به خلال عشر ثواني.
فقالت: أكل،إممم.. أحلام، أرنب.. أمير.
قلت:لا يمكنني قبول أرنب وأمير ولكن سأجعلها تمضي إن أجبت عن عشر أشياء جميلة بحرف العين.
فقالت: عمل، عبرة، عهد، عسل، عبير، عدل...ع .. عُمر، عشرة، عناد، عزيمة، علاج.
فصرخت من فرط الحماس قائلا:كيف يكون العهد، والعناد جيدين؟
فقالت: العهد مسؤولية وغالبا لا ينفذ لأننا بشر، ولكنه مسكن جيد ممن تثق بهم. والعناد ما جعلني أعيش إلى الآن فكيف يكون سيئا.
استمررنا بلعب تلك اللعبة طول تلك الليلة وكنا نتناقش حول الكلمات.
في الليالي التالية التقينا عدة مرات صدفة في السطح فيبدو إن كلانا يحب التفكير والتأمل ونحن نتمعن في السماء المرصعة بالنجوم البهية.
14
اشتريت طعام لذيذا وأردت تناوله برفقة أحد ما في أحد المتنزهات أو الحدائق العامة.   أول شخص خطر في ذهني هي جارتنا رفيف إلا إنني تراجعت تلك الفكرة فقمت بالاتصال بصديق مقرب لكنه كان مشغول وفكرت في إن أختي التي تصغرني بثمانية عشر عاما قد تود ان تخرج في نزهة مع أخيها الأكبر فأتصلت بها وعلمت إنها في حفل عيد ميلاد صديقتها.
ولم يكن لي خيار سوى الذهاب إلى السطح وتناول طعامي وحيدا مع إنني لا أخفي إني شعرت إن جارتنا قد تأتي ودعوت بإخلاص من اجل ذلك.
جاءت جارتنا بعد عدة دقائق من صعودي للسطح وهي تشكو من خطب ما بكت بحرقة كبيرة وقالت بصوت خافت: عليكم اللعنة جميعا.
لا أعلم أي نوع من المشاكل تمر به جارتنا رفيف إلا إنه من العيار الثقيل حتما لتبكي هكذا.
بقيت ساكنا فليس من اللائق أن أظهر لها وهي في هذه الحال ومن الأفضل ألا تعلم إنني موجود أصلا.
بعد مدة قليلة هدأت وضحكت من تصرفاتها وجاءت دون أن أنتبه لمكاني وقالت: منذ متى وأنت هنا؟ وقامت بإرجاع شعرها خلف أذنها اليمنى.
فقلت: كنت هنا قبل وصولك.
فقالت: آسفة حقا. لابد إنك كنت هنا لتستريح وأنا أزعجتك. آسفة جدا.
من الغريب إنها لم تستأ لأني رأيتها بتلك الحال ولم تشعر بالغضب مني لأني سمعت ما قالته وقمت بمراقبتها وليست خائفة من أن أظهر أسرارها هل تثق بي يا ترى؟
قالت بينما رأتني مستغرقا في التفكير: أنا غاضبة منك لأنك شاهدتني بتلك الحال لكنك كنت هنا أولا لذا فشعوري بالأسف تجاهك يمنعني من الغضب.
هل كانت في عقلي قبل قليل؟ هل فكرت بصوت عال ربما؟
قلت مرتبكا وسعيدا في نفس الوقت: إذا كنت متأسفة لهذا الحد يمكنك تناول الطعام معي... سأعتبر ذلك تكفيرا عن خطأك.
نظرت إلي بغرابة ثم قالت: لا أعتقد إن بإمكاني فعل ذلك.
لقد جعلتها تخاف مني، هي محقة، رجل يطلب من فتاة أن تتناول معه وجبة لوحدهما بعد إن رآها تبكي، هل هو رجل يفكر تفكير سيء؟ هي فتاة محافظة ولنقل إنها فتاة طبيعية ستفهم أشياء خاطئة، ستفهم إني أحبها طبعا، لكن لحظة ما الخاطئ في هذا؟ انا أحبها وهذه حقيقة ولكن لست أحبها... أحبها ولكني أحبها بطريقتي.
كانت على وشك النزول فقلت: ثلاث كلمات بحرف الحاء الوقت عشر ثواني.
حملت هاتفي المحمول لأريها عداد الوقت فقالت وهي مستعجلة خوفا من الخسارة:حنان، حب، حكمة.
فضحكت قائلا: واو أنت مدهشة، ثلاث أشياء جميلة بحق واعتقد إنها مرتبطة مع بعض بعلاقة وثيقة.
قالت بعد إن أرجعت شعرها خلف أذنها اليمنى:إنها أشياء أفتقدها...
( فجأة لم أستطع مقاومة مشاعر الشفقة)
أردفت قائلة:الوحدة لم تمنحني الأولى والثانية ونتيجة لذلك لم أتحلى بالثالثة.
إنها تريد أن تتحدث لأحد عن همومها و لا أظن إنها تثق بالناس كفاية أو لا تجد أحد حولها لتخبره بما تشعر به.. كنت ممتلئ بشعور المسؤولية لشخص أكن له الاحترام والتقدير... كلماتها تلك جعلتني أتخلص من جنون جارتنا وأعود لحالة السلام والسكينة لمجرد رؤيتها, نظرتي إليها تغيرت من إمرأة جذابة إلى حسناء صغيرة ثم فتاة ضعيفة تحتاج لرعايتي فكرت إني لو ساعدتها قد يساعد احد أختي الصغيرة.
دعوتها مجددا لتناول الطعام فأنا أريد مشاركة سعادتي مع شخص ما، وأقنعتها إنها بالصدفة كانت هي ذلك الشخص بعدما أخبرتها عن صديقي المشغول وأختي.
فرشت حصيرة صغيرة على الأرض وجلسنا هناك لتناول الأطعمة الشهية.

تعلمت من خلال خبرتي في الحياة إن  أردت ان يفتح أحدهم لي قلبه علي أن أشاركه بعض أسراري ليشعر بالأمان لي فقلت : لماذا لم تسأليني عن سبب دراستي للأزياء؟
قالت:لأنه أمر لا يعنيني.
قلت: هل لك ان تستمعي لقصتي؟سيكون جيدا لو استمعت لي.
هزت رأسها مشيرة بالموافقة، أرجعت شعرها خلف أذنيها ونظرت إلى الحصيرة لتمنحني شعورا بالراحة.
قلت بصوت عميق:أمي كانت عاشقة لتصميم الأزياء وعملت كمصممة لفترة قصيرة ولكنها تخلت عن حلمها أملا أن يولد لها فتاة تجعل منها مصممة أزياء ولكنها رزقت بصبيين فقط، واختارتني لأحقق حلمها، لذا درست الأزياء لأني لم أكن أرغب في الخوض في شجار معها... أمي رزقت بطفلة صغيرة عندما كنت في المرحلة الأولى في قسم الأزياء.
نظرت لي بدهشة :حقا؟ إنها سخرية القدر.
ضحكت مردفا:هذا صحيح..إززز وبعد إن أكملت الجامعة ظننت إنه يحق لي أن أفعل ما أرغب به لكن لا.. والدي لديه متجر لبيع الهواتف المحمولة ومتجر لبيع الحواسيب والأجهزة الإلكترونية ومتجر أجهزة كهربائية منزلية، وقد جعلني أختار أحداها وأديره وأخذ أجوري كأي موظف وإن أحسنت صنيعا قد يجعله ملكا لي... توقعت أن يتوقف تحكم عائلتي الكريمة بي ومجددا...
قالت: لم يتوقف؟
قلت وقد اجتاحني الضحك:أجل. لقد أختار والدي لي ابنة صديقه كخطيبة وقد وافقت عليها على شرط أن أعيش مستقلا.. هي لا تمانع إن صعدت سحلية على كتفها، ولا تبالي بما تأكل ولا تجيد فعل أي شيء كالفتيات العاديات، همها الوحيد أن تكون عالمة أثار، تحب السفر والتنقيب عن الآثار، وقد تأجل زواجنا عدد مرات بسبب رحلاتها ولكن أخر مرة كان قد تبقى بضعة أشهر على الزفاف قد حددنا كل شيء  ولكنها سافرت في رحلة للتنقيب عن الآثار.
حدقت بي لفترة ثم قالت:هذا محزن... لكن أيها السيد ألا تعتقد إنك لا تمتلك الشجاعة الكافية لمواجهتهما؟ ألا تعتقد إنك مستسلم وخائف وضعيف وجبان وكل هذا تضعه تحت قناع القناعة والبر بالوالدين؟
قلت: فكرت في هذا مرارا... إززز.. أنا نادم لأني لم أقاوم ولست نادم أيضا، ففي كل الأحوال سأسير على ما خططاه لي لكوني الابن الأكبر... هكذا قمت بتقليل الوقت الضائع في الشجار فقط. والدي طيبان ولا يستحقا مني ان أجرحهما.
قالت:أش.. أنت ستعيش هكذا للأبد؟ لم يكن لي عائلة من قبل لكن أعتقد إن الوالدين يريدان ولادة طفل معافى سعيد يكبر ليصبح فتى ناجح في حياته ويتزوج بفتاة يحبها ويرزقان بأطفال رائعون.
قلت: هذا صحيح . ولكن من وجهة نظر الأباء خيارهم لأولادهم هو الذي سيجعلهم يعيشون بسعادة للأبد.
أخذت نفسا عميقا ثم تممت قائلة: لو كنت أما لوددت أن أرزق بإبنة حكيمة وشجاعة يمكنها ان تقول ما تفكر به ويمكنها أن تخالفني ولا تقلق بشأني من اجل أحلامها... بأي حال من الأحوال... أنت محظوظ لأنك تمتلك عائلة طبيعية.
قلت: ربما.
نظرت إلى السماء وأرجعت شعرها خلف أذنيها:تقول ربما؟.. هذا محبط!! لو كان لي عائلة طبيعية لما كنت لأتعرض للتنمر في المدرسة، وكنت سأحظى بكثير من الأصدقاء، ولن يهرب اؤلئك الذين تقدموا لخطبتي، وسيدافع عن أخي عندما أحتاجه...  أخي رائع لكن لم أره منذ مدة .. (نظرت إلي وأردفت : أنت تشعر بالشفقة تجاهي؟ كل من تقرب مني شعر بذلك... وأنا أكره ذلك الشعور.
ضحكت من أعماق قلبي وقلت:آسف لكن انا أشعر بالشفقة عليك لأنها تشفقين على نفسك كثيرا، أنت تقولين لنفسك "لو كان لي عائلة لأصبحت قوية" هذه الجملة ستضعفك بالتأكيد. العائلة تقف إلى جانب بعضها صحيح، إنما في المدرسة، وفي الجامعة، وفي العمل الوحيد الذي سيقف إلى جانبك هو أنت. أنظري لي انا أتمنى لو لم يكن لي عائلة أحيانا... انت إنسانة قوية وحكيمة وخوفك نابع من تكرارك لجملة "لو كان لي عائلة".
استأذنت جارتنا لتذهب بعدما شكرتني على الطعام والنصيحة.
مرة أخرى جعلتها تهرب... لا يمكنني أن أكون جبان للأبد، أليس كذلك؟؟
15
بعد يومين خطر في بالي زيارة جارتنا رفيف في الجامعة فقد قررت بفضلها ألا أكون جبان أو مترددا بعد الآن.
سألت عن قسم التربية علوم الحياة فقاموا بإرشادي إليه، وهناك قمت بتأليف قصة لأسأل بعض الطلاب عن الطالبة رفيف، ونور، ومريم،ومها... من هم لا أعرف لكن لم أرد أن أحرج جارتنا رفيف أو أثير بعض الجلبة حولها فذلك أكثر شيء تكره، لذا سألت عن أسماء شائعة وبالفعل كان هناك الكثير من مريم و نور ومها و رفيف متفوقة واحدة.     
علمت عن رفيف إنها غامضة جدا والأولى على مرحلتها وتقضي وقتا طويلا في الدراسة لذلك أصبح لديها متيمون ومترصدون الزلات وحاقدات وحاسدات وكذلك داعمون وصديقات لكنها ليست شخصا يفتح قلبه بسرعة لذلك يخشونها ولا يكلمونها...      إذن فهي تعاني من مشكلة في شخصيتها وليس السبب أهلها في كونها وحيدة.
سمعت عنها كل أنواع كلمات الاحترام والتقدير حتى من الأساتذة هذه الكلمات شجعتني على إكثار الأسئلة عنها حتى ظن بعض الشباب إني انوي خطبتها.
علمت إنها ستنهي فصلها في الأسبوع القادم وستبدأ أنشطة خارجية وقالت لي الفتاة التي أعلمتني بذلك " تبدو كشخص يستطيع مساعدتها. هل يمكنك فعل ذلك؟"
قلت: حسنا سأساعدها لكنها قوية و لا تحتاجني.
فقالت الفتاة محبطة:أنت لا تصلح لمساعدتها... ربما أخطئت!!!
ظلت كلمات تلك الفتاة تتكرر في ذهني مرارا وتكرارا... في الحقيقة أعرف ما الذي يتوجب علي فعله.. لكني مترددا قليلا.
16
بينما كنت أقنع نفسي بأن علي لا أتدخل في  حياة جارتنا الشخصية بدأ غموضها يثيرني أنا أيضا وبدأت أتسائل ما هي الجوانب المخيفة والغريبة التي تخفيها هذه الفتاة؟ ما أعرفه عنها وما أشعر به ليس إلا أسطر قليل من صفحات رواية ضخمة.
أصبت بالأرق فقبل النوم راودتني خيالات مرعبة حولها، استأت من نفسي لأني أفكر بطريقة طفولية كطريقة أولئك الذين تكرههم هي ولكن لا شيء يمكنه كبح تلك الخيالات.
مما زاد في رعب تلك الخيالات إنني أشم رائحة سمسم يتحمص كلما بدأت الأفكار والخيالات حول جارتنا تنساب في عقلي.
في ليلة أصبت بالأرق ولم استطع النوم حتى الصباح...
عند الساعة الثامنة سمعت صوت باب جارتنا فغيرت ملابسي بسرعة ولاحقتها سرا.
وصلت جارتنا لمكان كأنه مخزن مهجور خلف السوق الشعبي وما أثار ريبتي إنها ترتدي     سترة عريضة وكبيرة جدا و بنطالا ممزقا وقبعة ونظارات سوداء...
هل هي عضو في عصابة أم إنها تخضع للتهديد من قبل دائنين أو مجرمين خطيرين؟ كل أنواع الأسئلة التي ترتبط بالمصائب التي تتعلق بالمجرمين خطرت لي.
اندفعت دون تفكير خلفها، فتحت الباب بقوة فلم أجد سوى سلما أسمنتيا رسم عليه أنواع الرسوم الغريبة.
ارتقيت السلم وكأني أطير، كان في الأعلى قاعة بحجم ملائم تحتوي على مجموعة من الشباب والشابات يرتدون ملابس مقطعة و مصبوغة بطريقة تعطي انطباعا متسخا حولها.
"يا للهول!! أتنتمي جارتنا لتلك المذاهب المريبة؟ كان علي إنقاذها"
قام شاب وألقى علي التحية بكل تهذيب و سألني إن كنت أريد الانضمام لمجموعة محبي الراب.
قلت في نفسي" لا تمزح يا صاح، سأبدو كالأحمق مجددا أمامها. هل علي ان أهرب الآن ما دامت لم تنتبه لي؟"
قلت: أنا كنت أبحث منذ..
قاطعني الشاب قائلا: لديك كل الحق في أن لا تجدنا.. طلبت منهم تغيير المكان.
نظرت إلي جارتنا وفي عينيها نظرات عجيبة ولكنها النظرات التي منحتني السكينة والاطمئنان والشجاعة.
بدأ الشباب يتحدثون عن الراب والمشاهير في عالم الراب وغنوا بعض من مقاطع الراب من تأليفهم كان وضعي كوضع قط قرر ان يسبح في بحر هائج، إنني لست مهتما بالغناء بصورة عامة حتى.
قامت جارتنا رفيف بغناء مقطوعة صغيرة من الراب من تأليفها تتكلم عن إيهام أنفسنا بالضعف ..
شكرتها في أعماق قلبي لأنها تقبلت فكرتي وسرحت في أفكار عميقة حول هذه الجارة الفريدة ومضى وقت حتى اكتشفت إن عيني مازالت تحدقان بها.
مضت تلك الساعتين ببطء شديد وحان الوقت لأجيب عن أسئلة جارتنا، ترقبت سؤالها " ماذا تفعل هنا؟"
لكنها لم تعرني أي اهتمام خرجت من القاعة وكأنها لا تعرفني، فقمت بالحديث مع بعض الفتيات هناك ولم اتبعها. تفهمت إنها لا تريد أن تتعرف علي حتى لا تكون عرضة للأسئلة والإشاعات الشيء الذي تكره حد الموت.
ركبت سيارتي لأعود فرأيت انعكاس جارتنا في مرآتي وهي تتحدث مع شاب يضع يديه على كتفها، بدت غير مرتاحة وبدا لي شخصا غير مطمئن.
تركت سيارتي وذهبت نحوهما وقلت بصوت عالي: آنسة رفيف!! ألم نتفق ان نذهب سويا؟ لقد بحثت عنك طويلا.
قال الشاب: من انت؟
قلت:نعم، إنه ما تفكر فيه.. (امتقع وجهه) أنا جار الآنسة رفيف... (بحدة وقسوة)  آنسة رفيف هل لك أن تصعدي إلى السيارة؟ والدتك إتصلت بي وطلبت مني اصطحابك.
رفيف (مضطربة):حسنا، شكرا لك.
حذرت ذلك الوغد وركبت السيارة وانا أشعر بالغضب قدت السيارة وكلي خوف أن أفتح فمي بكلمة قد لا أتمكن من رؤية جارتنا بعدها.
أوصلتها إلى المبنى ثم قلت: إنه فتى سيء، الرجال يمكنهم معرفة ما في عقول الرجال.
توقعت منها ردا قاسيا ولكنها قالت بدون أي تعبير: شكرا لك.. سأحتفظ بنصيحتك.
ثم لاحت إبتسامة طفيفة على وجهها.


17
White brown  _   because I love
تحاشيت لقاءها في ما تلا من الأيام لأني لم أملك أجوبة مقنعة ملائمة لما قد تطرحه من أسئلة..
كنت كفأر يمشي في دولابه، كمن حكم عليه بالحبس ألإنفرادي ، ألقيت اللوم على جارتنا لأخفي استسلامي وجبني فقد اكتشفت أخطاء كثيرة في حياتي وشخصيتي _لم أمتلك شخصية من الأساس_ جعلتني أخاف من العيش الطويل، ومن مقابلة البشر الذين أعتدت على مقابلتهم.. اؤلئك الأشخاص الذين يستنزفون وقتي وطاقتي وهم لا يأبهون لي..أما أهم الأشخاص في حياتي فأنا لا أعيرهم أي اهتمام.
في تلك الأيام شعرت بحاجة لرؤية جارتنا والتحدث معها ولأكون صادقا رغبت بأكثر من ذلك أكثر من أي وقت مضى.
في ليلة من ليالي الصيف المنعشة استيقظت من النوم وان أتعرق بشدة وأشعر باختناق شديد، غسلت وجهي ثم صعدت للسطح لأسترق بعض الأنفاس من تلك الأمسية المقمرة المرصعة بالنجوم.
كنت الهث وانا انتظر بتمعن لتلك النجوم المضيئة التي من المحتمل جدا ان تكون غير موجودة، أنا لا يمكني أن أضيء نفسي الآن فكيف فيما بعد عندما يصبح لي عائلة وابدأ برحلتي نحو الفناء؟ هل سيذكرني أحد بعدما أذهب ؟
قلت ضاحكا ضحكة هستيرية: كم أنت عظيمة أيها النجوم!!
قالت جارتنا التي كانت تجلس في الظلام خلفي: نعم إنها عظيمة. تزين السماء بعد اندثارها.
أهتز بدني فلم أتوقع وجودها هذه المرة ربما الاختناق والخوف يعطلان أجهزة الاستشعار لدي.
مدت يدها نحوي قائلةً: تفضل... من صنعي.
ناولتني قطعة من السمسمية وقالت: لستُ مخيفة لهذا الحد.
كل ما استطعت قوله: شكرا... صحيح.
فرشت الحصيرة على الأرض بالقرب منها وجلست، ناولتني كوب من الماء فشكرتها قائلا: هل نلعب؟ أشياء جميلة بحرف؟
قالت:سأبدأ أنا.. سبع أشياء جميلة بحرف ..إممم حرف إل...الفاء. والمدة خمسون ثانية... بدأ
قلت: هذا صعب جدا..
قالت (بأدب بالغ):أيها السيد.. أنت من إقترحت اللعبة.
قلت: فريد، فضيلة، فضل.. فناء ليس أمرا جيدا، صحيح؟
قالت:انتهى الوقت.. خسرت.
قلت:سأريك الكرم الآن.. أشياء جميلة بحرف الباء، شيئين فقط، والمدة عشرين ثانية.بدأ
قالت:بدر، بحر.
قلت:ووو... نجحت.
ثم مضت نصف ساعة بصمت هي سرحت في أفكارها وأنا أستمتع باختلاس النظر إليها من حين لأخرى فرؤية وجهها فقط تشعرني بأن علي أنا أكون شخصا أفضل وعلى ان أعمل بجد لأن غدا سيصبح أفضل وأكثر أشراقا.. وعلى ان أعتني بأناقتي وأن أكون صادقا...
يش أنتم لم تفهمونني صحيح؟ عندما ستعثرون على احد من هذا النوع عندها ستتذكرونني.
قلت مقاطعا لأفكارها:هناك أمر ما.. لقد سمعت عنك الكثير .. في الجامعة.
قالت:معذرة لم أسمع.
قلت:كل من في مرحلتك يقولون انك الأفضل ويتمنون إنهم يكونوا بدلا منك، يكنون لك الكثير من الاحترام حتى الأساتذة يعتقدون إنك فتاة تعرف ما الذي تريده واصرارك جميل جدا...  زرت جامعتك.
قالت وكأن الأمر لا يعنيها عذرا: أود المغادرة حاليا.
قلت: انتظري رجاءا لدي ما أخبرك به.
قالت (ابتسمت ببرود):حسنا، سأبقى... لماذا أشعر بالرعب؟
قلت: ليس امرأ مخيفا البتة... قبل فترة ذهبت لجامعتك..
سألت بارتياب: كيف عرفت أي جامعة أرتاد؟
ضحكت من قلبي قائلا:ظننتك أذكى من ذلك... في العاصمة هناك ثلاث جامعات فقط تحتوي على تخصصك الذي بحت لي فيه في ثاني مقابلة لنا_ لو تذكرين؟؟_ جامعة للأثرياء وجامعة لمن لا يريدون الدراسة وجامعة للأناس العاديين،التي تدرسين فيها... هذا ليس مهما على أية حال...المهم سمعت كثير من المديح وكثير من الناس يحبونك ويدعمونك دون ان تعلمي وهناك فتاة ظنتني أخاك فطلبت من العناية بك ..
قلت في نفسي (آسف على تلك الكذبة جارتنا لقد ظنتني شخصا يحبك)
قالت متأهبة لقول كلام جارح:هل سألت عني؟ بأي صفة؟
قلت مبتسما: لا. سألت عن الأشخاص الذين يحملون اسم نور, مريم, مها،رفيف..فهناك فتاة من قسمك سرقت حقيبة مهمة لي تحتوي على أشياء ثمينة ولا أعرف عنها سوى إنها تدرس هناك وإن أسمها احد هذه الأسماء.
قالت مندهشة:عظيم!! فكرة ذكية. (جلست وعينياها تتقدان وكأنها مشاهدة متلهفة لفيلم مثير)
أتممت حديثي قائلا: هناك قصصا مخيفة تنسج عنك ولكن نفوا أن تكوني سارقة إلا إذا كان في الحقيبة شيئا يخص عصابتك(ضحكتُ بينما تجهمتْ) لديك الكثير من الحاسدين وهناك فتيان يتمنون الحديث معك (أظنني محظوظ لأني أستطيع التحدث معك كلما شعرت برغبة لذلك) وهناك فتيات يرغبن بأن يكن صديقاتك.. أيتها الآنسة افتحي قلبك لهم وكوني سعيدة كوني صداقات... عيشي حياتك برفقة من تحبين... واصنعي ذكريات جميلة.
قالت بمرارة:كلهم سيرحلون.
قلت:بالتأكيد سيرحلون لأن الأرض لا تتوقف عن الدوران، والأيام تمضي، وكل شيء لن يتوقف عن التغيير، بالإضافة إلى أنك سترحلين عن البعض الآخر... "خلقناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا"
قالت: أتمنى أن أكون طائرا حتى لا أتمكن من تميز أهلي وأصدقائي..
قلت: البشر يسببون الوحدة، الخوف، الحزن، الألم .. ولكن وحدهم البشر الذين بإمكانهم حل تلك المعضلة.
قالت بإبتسامة رقيقة:حسنا..هذا رأيك وانا أحترمه. أما الآن اعذرني أود المغادرة.
قلت:أنا أعتذر حقا لأني أتدخل في حياتك بهذا الشكل ولكن هل يمكنك البقاء واقفة عندما ترين احدهم على وشك السقوط؟
قالت:لم تفكر في إنه ربما قد أنحنى ليحمل شيئا ما سقط منه؟لا ترى الأمر من وجهة نظرك فقط...إن كنت انت من ولد مثاليا فأنا الشخص الذي يتعلم.


18
عرفت أسم حسابها في موقع تواصل اجتماعي راقبته وعرفت إنها تذهب لمكتبة كل أسبوع من نفس الوقت.
وحتى لا أثير الإنتباه رحت اذهب يوميا لمدة أسبوعين وفي نفس الوقت أقرأ ما راق لي من الكتب، لا أحب القراءة لكن فكرت فيها كطريقة لأجعلها اقرب مني وقد فلحت في ذلك.
 سألت أمينة المكتبة عن كتب جيدة مرارا فقالت: انت تحب الكتب يجدر بك الانضمام لمجموعة قراءة الكتب كل أربعاء، الساعة العاشرة صباحا.
 للأسف إنه وقت ذهابي للعمل لكن سأؤجل الذهاب ساعتين يوم كل أسبوع أمر لا بأس به جدا.
إنه يوم الأربعاء أعددت نفسي جيدا لبست زيا يجعل مظهري رزينا ومثقف حتى إني لبست إطارات نظارات أعتقد إنها قادتني للجنون.
ذهبت مبكرا للمكتبة وتعرفت على بعض الأصدقاء اللطيفين وحصلت على تفاصيل أكثر عن مجموعة القراءة وجلست بهدوء أقرا حتى مضت الساعتين و استلمنا أوراق من منظم المجموعة وذهبنا، وبالصدفة التي دبرتها أصدمت بجارتنا.
فظهرت على وجهها الملامح التي أردت أن تظهر على وجهها خليط من الاندهاش والخوف والسعادة برؤية شخص تعرفه فقالت: معذرة، ماذا تفعل هنا؟
فتوخيت الابتسام بحذر وأجبت قائلا:أقرأ، أمينة المكتبة أخبرتني عن المجموعة. انت ماذا تفعلين هنا؟
قالت:أنا أنتمي لهذه المجموعة منذ فترة طويلة.
فقلت في نفسي: ( لقد جعلتني أبدو شريرا ومراهقا ثانية لكن إن كان لأجلك لا بأس)
لم أعرض عليها إيصالها للمنزل فقد يبدو تصرفا شاذا وغير مهذب.
على أي حال لقد كسبت فرصة للقائها كل أسبوع، لقد رأيت على وجهها...
إنها تسيطر على كامل عقلي إنها تتغلغل في حتى النخاع.
19
ذات صباح جاءت والدة خطيبتي وقامت بتوبيخي أمام باب شقتي لأني أقضي وقتي مع الفتيات وأسيء لسمعة ابنتها التي ستتأخر سنة أخرى فقلت لها: لن أتزوجها حتى لو توسلت لي.
وبعد ساعتين جاءت والدتي للمتجر وألقت الكثير والكثير من النصائح واختتمت كلامها بجملة: ب"أنت حر"
فقلت:أنا حر حقا؟... إذن أنا أختار أن اتركها.
صرخت أمي قائلة: أيها الأحمق.
قلت: لا تصرخي رجاءا هذا المكان الذي يدر عليك المال.
فقالت: حسنا.. أنت، أنت...
 قلت : نعم لا أطيقها البتة.
قالت(غاضبة): أنت تشعر هكذا حقا؟
قلت:نعم.
قالت: لتذهب تلك الفتاة إلى الفراعنة وأحظ أنت بحياة سعيدة... بيني وبينك انا أيضا لا أطيقها... أنا سأتكفل بوالدك.
قلت:وهناك أمر أيضا...
قالت (منبسطة الأسارير): عثرت على فتاة أخرى؟
قلت: أريد العمل في الأزياء... ونعم عثرت على فتاة أخرى.
قالت:ونعم انا وافقت عليها... لقد جعلتك تغير رأيك؟ لا بد إنها مميزة.
20
اتفقت للمرة الأولى مع جارتنا رفيف للصعود للسطح فوافقت بشرط ان نستغل الوقت حل أسئلة مجموعة القراءة.
جهزت كل ما يلزم للتسلية وصعدت إلى السطح بعد الساعة الثامنة والنصف مساءا.  لم يكن الجو منعشا أو رائعا لكن لا بأس به.
غفوت لساعة تقريبا حتى جاءت جارتنا رفيف وأيقظتني، لا اعتقد إن بالإمكان الحصول على شعور أجمل من هذا، يا الهي كم كان جميلا أن أسمع صوتها وهي تقول :أيها السيد، أيها السيد... طاب مساؤك.
صوتها كان كفيلا بجعل النوم يهرب بعيدا جدا ولكن أمارات التعب والنعاس كانت تبدو واضحة على محياي، فاقترحت جارتنا أن نلعب لعبة أشياء جميلة بحرف إلى حين شعوري بتحسن.
وابتدأت هي بطرح سؤال بخمس أشياء جميلة بحرف الراء والوقت دقيقة لترد كرمي في تلك المرة ولكن عقلي فشل في الحصول على أكثر من إجابتين فقالت:رجاحة،رزانة, رقي ، رقة، رحمة، رخاء، راسخ، رفاهية، بالإضافة إلى ربيع ورغيد اللتان ذكرتهما.
قلت : بالفعل هناك الكثير. ماذا عنك؟ هل ستجيبين أن طلبت كلمة واحدة بحرف الكاف في ثلاث ثواني؟
مسكت هاتفي لأضغط الزر فصاحت: كمال.
فضحكت قائلا:هووه هو... انت جارة ذكية...
وقع عيني على ورقة الأسئلة فرأيت أول سؤال: ما رأيك بالكمال؟
فقلت: هذا ليس عادلا! لقد سرقتي الكلمة من الأسئلة.
قالت:فكر بما تحب أن تفكر فيه. الآن ما رأيك بالكمال؟
قلت:هو شيء لا يتواجد في عالم البشر ولكننا نسعى لنكون مثاليين قدر الإمكان.
قالت(بهدوء): الكمال هو الشيء الذي يبدو جيدا بنفس القدر للجميع. ولكن هذه الحالة كاملة ولا يمكن حدوثها لأننا بشر لذلك الكمال يمكن ان يتواجد بشكل مختلف من شخص لأخر. فما أجده كاملا قد يكون تمام النقص في عينيك وهكذا، ولا بد للشيء الكامل أن يحتوي على منقصة وإلا سيكون بغيضا بعيون البشر عوض كونه كاملا.
قلت بتعجب وانبهار شديدين:واه.. لا أكاد أن أفهم أي شيء ولكن يبدو جيدا، وانا أتفق معك في كون الكامل عليه ان يحتوي على منقصة وإلا أصبح لا يحتمل مثل الحجر القبيح في لوحة تكشف لنا جمال القصور مثلا.
قالت: هذا صحيح. السؤال التالي لغز والذي بعده تخيل والذي يليه ليس مهما يمكننا حله لوحدنا.
أسرعت بالقول: لم أفهم معنى" هل تحبون نظامنا الجديد أم النظام السابق؟"
قالت: آه، لقد بدأنا الذهاب للمكتبة من بضع اشهر والبعض يفضل النظام القديم.. يمكنك اجتياز السؤال.
قلت بنفاذ صبر :ما هو النظام القديم؟
قالت: التواصل عبر برنامج دردشة وطرح أسماء كتب والنقاش حولها.
فقلت واثقا: النظام الجديد أفضل.
قالت: ربما. واتبعتها بإبتسامة أفهمتني منها إن ليس لي علاقة بالموضوع.
سألتها عن نوع الكتب المفضلة فكانت إجابتها المجلات والكتب العلمية والقصص القصيرة،  بينما إجابتي كانت الكتب المالية والسياسية والروايات.
كان هناك سؤال عن الحكمة المفضلة وانتابني الفضول لمعرفة ذلك.
أرجعت شعرها خلف أذنها اليمنى وقالت برقة وعذوبة: إنه ليس حكمة إنه أسطر شعرية ألفتها بنفسي أقول فيها " أسعدني بالطريقة التي أريدها... أحببني بالطريقة التي أحلم بها... وساعدني في الأوقات التي أحتاجك فيها" (ابتسمت ثم أردفت:وما حكمتك المفضلة؟
قلت:شعر قمت بتأليفه (حاولت كبت ضحكتها اللطيفة)قلت فيه" لا ينير منزلنا سوى شمعتنا،لا يجرح قلوبنا سوى خناجرنا، لا يشفى قلوبنا سوى صلواتنا، ولا يضحك روحنا سوى شخص يسكن في أعماقنا"
نظرت إلي متعجبة وقالت:هل هذا حقا من تأليفك؟
قلت: نعم، أرتجلته. لكن الحكمة التي أؤمن بها هي... "نحن نؤمن معيشتنا من خلال ما نجنيه ، لكننا نحيا من خلال ما نعطيه"
قالت:ونستون تشرتشل، صح؟
قلت:نعم، هذا صحيح... السؤال التالي عن موضوع الكتاب الذي قرأته ورأيك فيه قلت.. أنا قرأت موضوعا عن الأعشاب الطبية، لا بأس به، وقد حصلت على معلومات مفيدة. ماذا عنك؟
قالت:أنا رواية عائلية دافئة وجميلة جدا،أعجبتني. ماذا تعني لك العائلة؟
قلت:حسنا ... إممم... أنهم كالتربة إن صلحت نما البذر وإن فسدت فسد كل شيء،هم سبب الانهيار والنجاح .. أحيانا قد يكونون تربة صالحة ولكن الابن لا ينمو في ذلك النوع من الترب أو إن الجو العام غير ملائم، فمثلا عائلتي جيدة جدا ولكنها إحدى أسباب فشلي في حياتي لأنها لا تلائمني.
نسخت ما قلته وكتبته في الورقة فنظرت إليها وأنا أفكر بعمق فقالت وهي ترمقني بنظرة باردة تحتوي على حزن عميق وقوة كبيرة: أنا أستغلك في الحصول على معلومة لا أعرفها، لا يحق لك ان تستاء أيها السيد لأني ساعدتك أيضا.
فقدت قدرتي على التفكير السليم فسألتها: أين نوع من العوائل عائلتك؟
قالت: لا اعلم عنهم شيئا لقد هاجروا للنمسا منذ ستة عشر سنة وتركوني اعتني بجدتي... والدي كان سفيرا في النمسا وأمي أيضا تعمل في سفارة النمسا على ما أظن. كنت صغيرة حين انفصل والداي، كان هذا قبل تعيين والدي سفيرا،أمي شعرت بالبؤس لأننا بقيت لتربينا انا وأخي فطلبت نقلا للنمسا لتستعيد أبي، وبعد سنة عادت لتأخذ أخي وتسافر مجددا وأنا تركت لأعتني بجدتي، توفت جدتي بعد سنتين وأصبحت فريسة لأحد أعمامي وزوج عمتي، بسبب المبلغ الكبير من المال الذي يصلني كل شهر من والدي.لكن عمي الكبير قام بمساعدتي وحمايتي حتى وصلت للجامعة ... والى الآن لا اعرف عن عائلتي شيء.
قلت:يعني أنت غنية؟
قالت: أووه... كان علي أن لا أقول ذلك.
ابتسمت قائلا: شكرا لك لأنك كبرت بهذا الشكل الجيد، شكرا لك لأنك نموت بصحة، شكرا لقدرتك على رسم إبتسامة عذبة على محياك، شكرا لكونك متفوقة وذات سمعة حسنة وأخلاق رائعة.
تفوهت بكلام لم أفكر به ولكني عنيته، وهناك شكر احتفظت به لنفسي ، إنه إمتناني الكبير لكوني شخص وثقت به وأخبرته ما تخفيفه في قلبها.
قالت(تكبت دموعها وتظهر إبتسامة زائفة): تكلمت اليوم عن أشياء كثيرة... علي المغادرة الآن.
انتابني خوف وتأنيب ضمير إن تركتها ترحل وهي متألمة... شعرت وكأنها ماء يتسرب من بين أصابعي.
قلت دون أي تفكير لتغيير الموضوع: ما رأيك بالحب؟... انا أعتقد إن الحب حظ جيد وشعور بالأمان مع بعض مشاعر مختلفة ومخيفة هي بهارات العلاقة.
نهضت ومشت بضع خطوات ثم استندت للحائط وأرخت كتفيها نظرت إلى السماء وأرجعت شعرها خلف أذنها ثم قالت: الحب هو كحول... في السعادة الحقيقية والحفل أم في الحزن المطبق واليأس العميق سترغب في احتساء كأس من المشروب. في اللحظة التي تبدأ في الشرب لن تستطيع أن تقلع عنه، الكحول يشعرك بالنشوة وكذلك الحب، لا ترى بشكل صائب و لا تتخذ قرارات حكيمة ، يمكنك أن تطعن أو تقتل وأنت ما زلت تعتقد إنك في الجنة وعندما تفيق ستشعر بندم لا يمكن الشفاء منه، ولن تستطيع التخلص من إدمانك، ستريد المزيد دوما.
أخرستني تماما ثم استفسرت إن كانت تشرب الكحول، فأجابت إنها من المؤكد إنها لم تفعل ذلك مطلقا... طمئنت قلبي و رحلت، فإدمان الكحول داء حقيقي.


21
إزدادت رغبتي في العناية ب(جارتنا رفيف) كما إزدادت رغبتي بالتعريف عنها كحبيبتي و زوجتي للعالم ، وكم من الرائع ان أتخيلها أما لأولادي ... فيوم بعد يوم شرع خيالي بالنمو والازدهار وأصبح يأخذ منحىً أكثر بهجة وخاصة إن أمي تكفلت بالتسوية الأمور مع أبي والشجار مع والدة خطيبتي السابقة الشرسة، ومما جعلني أشعر بجدارتي على تحقيق مسعاي هو إنني أبذل جهدا كبير ولا أكف أبدا عن المحاولة مرارا وتكرارا وهذا أمر تعلمته من (جارتنا) بيد إنني لم امتلك شجاعة كافية لأطرق الباب وأخبرها بما أفكر فيه فقد تهرب مثل فراشة تقف براحة وسعادة وسلام على كتفك وما إن تحاول مسكها تطير بعيدا دون عودة.
كنت اعتمد على الصدف لرؤيتها ولكن سوء حظي جعلها من المجموعتين و جعل الصدف أيضا تغضب مني فلم أراها ولو للحظة لأسبوعين متتالين.
بحثت عن دورة تعليم تصميم الأزياء وعثرت على دورة مرموقة فالتحقت بها على الفور.
في ضحى يوم ما في المتجر...
كنت مضطربا وغير قادر على التنفس بانتظام وكان المتجر مكتظا بالزبائن. أوعزت أمرا لمساعدي ليقوم بخدمة كل الزبائن لأخذ استراحة لفترة، وبينما انا جالس على  الكرسي محاولا مراقبة الناس، عرفت إنني حقا أشكو من خطب فظيع.
سمعت صوت زبونة تتكلم بطريقة جارتنا رفيف عينها والصوت مماثل تقريبا فتوقف عقلي وكل حواسي إلا حاسة الشم، كنت أشم رائحة سمسم مرة أخرى.
أشرت لمساعدي إني راحل وركبت سيارتي وعدت بكل ما أؤتيت من سرعة وتهور لمسكني.
كانت تقف أمام المبنى سيارة نقل فأثارت في نفسي فضولا، من سيغادرنا؟ من سيأتي إلينا؟ أتمنى ألا تكون فتاة.. انا لطيف مع كافة الفتيات بحكم تعاملي مع الزبائن وقد يسبب ذلك سوء فهم  ودعوني أطمع ب"غيرة" من قبل جارتنا رفيف.
فتح باب المصعد فوقفت مذهولا تماما لدقيقة ولم أتحرك، كانت جارتنا رفيف تحمل صندوق أغراض وقالت بإبتسامة: يسعدني إنني رأيتك قبل مغادرتي، أحببت أن أحييك للمرة الأخيرة.
تلك الكلمات كانت ثقيلة جدا على قلبي ولم أستطع التحرك حتى سألتني " هل تشكو من خطب ما؟ هل أنت بخير؟"
تمشينا سويا لباب المبنى... الممشى قصير و لا يكفي لقول شيء مهم ولكني تذكرت فجأة إن العقد سينتهي الشهر القادم فأخبرتها بذلك.
قالت:لا بد إن تعد الشقة لعودة خطيبتك أيها السيد.
قلت: لقد فسخنا خطبتنا... (صعقت بتذكري إن لم أخبرها بشأن هذا الموضوع فأردفت قائلا:كيف عرفت؟
ضحكة بعذوبة وأرجعت شعرها خلف أذنها قائلة:لقد حذرني الجيران كثيرا، هذا الفتى مخيف، خطيبته كانت تسكن هنا قبلك، كانا يبقى كثيرا في بيتها وكانت تزوره في بيته، احترسي.
قلت فزعا:من قال هذا؟ ما هذا الكذب؟ اتهام الناس بالباطل... لست فتى سيئا.
ضحكت بهدوء: وهل تظنني لم أعرف زيف زعمهم؟ ولم أدرك إن والدة خطيبتك هي من زارتني مدعية إنها جارتنا؟
أخجلتني فطنتها.
قلت:أين ستذهبين الآن؟ هل عثرت على مكان لتسكنيه؟
قالت:أجل شقة علي الطراز الحديث في ناطحة سحاب تعود لزوج عمتي في مركز المدينة.
قلت خائفا:زوج عمتك؟
قالت:إنها عمتي الأخرى. علي الذهاب الآن . تمنياتي لك بالخير.
قلت: عندما نلتقي مجددا سنكون أصدقاء.
قالت: وما كنا إلى الآن؟...
انزلقت ماسكة الشعر التي كانت ترفع بها شعرها ولكنها لم تتنبه لذلك فحملتها ووعدت ان ألتقي بها ثانية لأعيدها لها.
22
مر شهر وشهر آخر وأملي في رؤيتها مجددا بدأ ينحسر رغم إن رغبتي كانت تزداد.
السطح واللعبة ومجموعة القراءة ومجموعة محبي الراب،و كل شيء أصبح مملا لكني لم أترك أي من المجموعتين لأملي في رؤيتها هناك ثانية.
كنت أسمع صوتا يشبه صوتها في السوق فألاحق صاحبته وبالطبع لم تكن هي، كما إني صدمت لكثرة وجود شبيهات لها بالمظهر الخارجي او هكذا كان يخيل لي.
تملكني استياء لا يمكن التحكم فيه ، استياء من نفسي لأني أنتظر فقط ولا أبحث عنها، في الحقيقة زودتني بمعلومات كافية للعثور عليها، ربما رغبت في أن أعثر عليها بيد إني استبعدت هذه الفكرة فور مرورها على بالي لأني واثق إنها لا تهتم لي كما أهتم لها.
بعد أسبوعين من البحث المضني استطعت العثور عليها ولكن فكرة اللقاء دون مبرر راعتني، فأجلت اللقاء ليومين.
23
وأخيرا إنه اليوم المنتظر...
وقفت أمام باب شقتها وأنا أفكر في ملائمة كلامي الذي أعددته وحفظته عن ظهر قلب، وخطر في بالي ان أهرب بيد إني استجمعت كل ما أمتلك من قوة وقررت قرع الجرس إلا إن الباب فتحت قبل أن أضغط عليه.
وقفت ذاهلا ثم استجمعت شتات أفكاري وانتبهت إلى إنني أراها لأول مرة ترتدي ثياب سهرة وتضع ماكياجا خفيفا وراقيا.
فتحت عينيها فبديتا ضعف كبرهما الطبيعي وتحدث إلي باللهجة التي خاطبتني بها أول مرة:عفوا، هلا تسمح لي بالخروج ؟ سأتأخر.
بالطبع لم أتوقع ان ترمي نفسها في أحضاني، ولكن هذه التعبيرات باردة للغاية بيد أن بإمكاني أرجعها لاندهاشها الكبير أو لتأخرها عن موعد مهم.
خشيت أن تخرج وحيدة و الشمس على وشك المغيب فعرضت عليها إيصالها إلى  غايتها فقالت : شكرا. سيوصلني العريس.
أفهمتني من نظراتها ونبرة صوتها وكلامها أنها لا تريد رؤيتي مجددا. حسنا لن أعود.
فأردفت قائلة: لا بد أنك أتيت من اجل أمر مهم. في المرة القادمة دعني اعلم ما هو.
ابتسمت وانا أنظر إلى الأرض ثم رفعت رأسي فرأيتها تبتعد بخطوات رقيقة ورزينة... إنها ذات الفتاة التي سببت لي كل ذلك الأرق وكل تلك الأحلام السعيدة. إنها كالكحول.
رغم إنه كان شابا وسيما ولطيفا وقد أظهرت جارتنا رفيف ودا تجاهه لكن لم أكن واثقا من إجابة سؤال حيرني "أ إنها تريد ان أنقذها من خطيبها أم تريد أن تحتفظ بي كصديق؟ ماذا عنت بكلماتها تلك؟"
ذهبت في اليوم التالي لزيارتها فلم تكن موجودة ولم استطع الوصول إليها على مدى أسبوع. ربما إنها مشغولة بتحضيرات زفافها.
وفي يوم قرعت الباب وأملي ضئيل جدا في رؤيتها.. فاستغرقت في التفكير في تصميم الأزياء وكلام أستاذي وفجأة سعدت بأن قطع علي سيل أفكاري صوت الباب "تيت.. تيت.. ترررا"
قالت بوجه خال من تعبير:مرحبا.
قلت بإبتسامة كبيرة و رزينة: مرحبا بك... وأخيرا.. ها أنت؟.
قالت:هل هناك أمر مهم لتتكبد عناء البحث عني من أجله؟
قلت بثقة: طبعا! لقد نسيت شيئا.. وأنا هنا لأعيده.
بحثت في جيبي فلم أعثر عليها فأردفت:يبدو إني نسيته.
أرجعت شعرها خلف أذنها وقالت:ممتنة لأمانتك، مع السلامة.
أرجعت شعرها خلف أذنها و ودعتني بتلك الفظاظة اللبقة بالتأكيد هي جارتنا رفيف.
23
عدت في اليوم التالي وأعدت لها ماسكة الشعر فقالت لي:شكرا لكن كان عليك رميها بدل تكبدك عناء البحث عني.
قلت:حسنا... الأصدقاء يزورن بعضهم ليطمئنوا إن كانوا بخير.
قالت: معذرة.. من قواعد الصداقة تمني حياة جيدة للصديق البعيد عن العين وعدم توقع استمرار الصداقة.
قلت:هكذا تظنين؟ أنا لا أظن هذا وسأفعل ما يحلو لي. مع السلامة الآن.
 أدرت ظهري لوحت لها بيد وأنا أبتعد عنها، يؤسفني إن كبرياء تلك الفتاة وأخلاقها العالية يمنعانها من الإفصاح بما تشعر به حقا سواء أكان كره أم مودة.
24
ذهبت بعد يومين
سألتني بنفاذ صبر وبأدب جم: أيها السيد، ماذا تفعل هنا مجددا؟
قلت:هناك طفل أريد منك ان تعتني به.   (عنيت نفسي بكلامي)
حملقت فيّ ثم أنزلت عينيها على الأرض ثم قالت بصوت واضح: عذرا، انا الآن أقوم بالتدريس الخاص فقط.
قلت منفرج الأسارير: هذا يبدو جيدا!! أوه.. نسيت أن أهنئك على خطبتك.تهانينا.
قالت باندهاش كبير:هذا غير صحيح.
راودني شعور يشبه الخروج من نفق مظلم،شعور أقل ما يقال عنه إنه لا يوصف، لم أستطع التعبير عن مدى سعادتي أمام جارتنا فودعتها وذهبت.
25
بحثت عن حجة جيدة وهيأت نفسي لأرد عليها مهما قالت وجهزت شعرا مستعارا أسود اللون يصل للكتف وركبت سيارتي وذهبت.
فتحت الباب جارتنا ويدو على وجهها إنها استيقظت للتو وقالت:السلام عليكم..
قلت: وعليكم السلام.
قالت:ما هو سبب تشرفي بزيارتك هذه المرة؟
قلت:الكل يتساءل لماذا توقفت عن حضور لمجموعة القراء ومجموعة محبي الراب فهل بحوزتك إجابة ملائمة؟ بعض الأصدقاء يسألونني عنك لعلاقتي الوطيدة بوالدتك.
 (أشرت للحادثة التي حصلت مع ذلك الشاب)
قالت:لا أرغب بذلك فقط.
استفسرت عن سبب توقفها عن الدردشة في مجموعة القراءة فأجابت بالإجابة ذاتها.
وكانت على وشك توديعي حينها أخرجت الشعر المستعار من حقيبة ظهري و أرتديته
وقالت:هل يمكنني الحصول على حديث مريح مع صديقتي بهذا الشكل؟
تأملت وجهها فلمحت فيه نظرة إشفاق وقلت:لا تفعل هذا بنفسك.
قلت:تش... أنا مضطر لفعل هذا. فصديقتي لن تقبل بالجلوس معي مالم أكن حشرة وهذا ما لا أستطيع فعله.. لكن بإمكاني التحول إلى فتاة لتشعر براحة أكبر.
مدت يدها نحو رأسي بتهور وحاولت إزالة الشعر المستعار فلم تستطع يدها الوصول إلى قمة رأسي فأنا أطول منها بمقدار جيد و لكنها استطاعت أن تجذب رأسي نحوها وللمرة الأولى أحدق بوجهها الحسن من هذا القرب بينما هي منشغلة برفع الشعر المستعار.
رفعت الشعر المستعار وأبعدتني وقالت: تصرفت دون تفكير آسفة.
جاءت جارة شابة للآنسة رفيف فقالت: مرحبا، كيف حالك؟ من هذا رفيف؟
قالت بتوتر:مرحبا حسناء. إممم..
أدركت إنها مقربة من جارتنا رفيف لذلك لم تستخدم ألقاب والأجمل إن جارتنا فتحت قلبها للعالم فقاطعتها بقولي: أنت تعرفين..
فأسرعت جارتنا بالقول:إنه أخي.      وابتسمت لتخفي توترها.
قلت: نعم أنا أخوها.
تبا لها لم تفكر في مركز لي سوى أخيها؟؟!! كم هذا سيء! إن لمن الممكن أن يسبب هذا سوء حظ.
ذهبت الآنسة حسناء فقلت لجارتنا لجس نبضها فقط:إن الآنسة حسناء أسم على مسمى، إنها حسناء بالفعل.
قالت بصورة طبيعية: وكذلك أخوها وسيم الذي يسكن معها، إنهم عائلة جميلة.
رد علي فخّي بصورة بشعة بينما لم تتأثر هي أبدا.
  
26
Whenever _ b1a4
 
فكرت مطولا واستجمعت قواي وقررت أخيرا أن أتقدم لخطبتها فالحياة قصيرة جدا ولا يمكنني أن انتظر إلى الأبد فذلك سيعذب كلانا دون جدوى.
حددت اليوم الذي سأذهب فيه لأخبرها عن مشاعري لكن الشجاعة كانت تخونني أحيانا، وتتجمع الوساوس في عقلي.
وجاء اليوم...
أرسلت أغنية تدعى " متى ما" على حسابها وكتبت "أنا أعني وبصدق كل كلمة وردت فيها... أنتظرك أمام مسكنك لأعرف ردك"
أما كلمات فهي..
"أخبريني عندما ترهقين من حياتك اليومية... سوف أريح دائما روحك المتعبة
أخبريني عندما ترغبين بمشاهدة فيلم ...
فطلب صغير منك هو سعادة بالنسبة لي..
عندما لا يكون لديك مواعيد ظهر يوم الأحد..
وشعرت بالحزن من دون سبب بعدما استيقظت متأخرة..
بجانبك، رجل يفهمك أكثر من أي أحد بالعالم ...
ويفكر بك أكثر من نفسه...
لقد احتفظت بمكانك فارغا لمدة طويلة...
الآن تعالي و ارتاحي...
كنت أراقبك إن كنت بخير.. واحتفظت بمكانك فارغا بعد مغادرتك
نظرة واحدة منك كافية لجعلي سعيدا...
إلى متى يتحتم علي أن امشي وحيدا؟
إتصلي بي إن كان هناك فيلما أردت مشاهدته..
إتصلي بي إن أردت الذهاب إلى أي مكان... سأصطحبك إلى هناك
لا تقلقي فلدينا الكثير من الوقت الفائض..
 في هذا اليوم الجميل دعينا نكون سويا..."

انتظرت ساعة أمام باب مسكنها ونصف ساعة أخرى ولم تخرج..
أهو كبرياؤها ما منعها من إعطائي الإجابة أم خوفها أم إنها نائمة أصلا؟
ثم سمعت صوت الباب...
خرجت وهي ترتدي ملابس تشبيه بتلك التي ارتدتها عند ذهابها لمجموعة محبي الراب  وارتدت قبعة أنزلتها على عينيها،اجتازتني دون أن تدرك وجودي.
كانت تصدر صوت يشبه صوت البكاء فقلقت جدا ونسيت اعترافي، تبعتها.
نزلت إلى الشارع وفجأة ضحكت بسعادة بالغة.
مشيت إلى جانبها بضع خطوات ثم ألتفت نحوي وهي غاضبة ويبدو إنها كادت توشك على تعنيفي إلا إن ملامح ممتزجة من الخوف والسعادة رسمت على محياها الحسن بمجرد إنها رأتني، كان صوت أنفاسها ضعيفا وعلى الأرجح إنها كانت تكتمه بيد إن قفصها الصدري كان يرتفع وينخفض ، كنت اشعر بما تشعر به إلا إنني استطعت السيطرة على نفسي بتفكيري في هذه اللحظة لمدة طويلة.
قلت:مرحبا.
بهتت وأرجعت شعرها خلف أذنها اليسرى هذه المرة وقالت:مرحبا! ماذا تفعل هنا؟
قلت: لنفترض إنك لم تعرفي..
ابتعدت بخطوتين وأردفت: هل تسمحين لي أن أسعدك بالطريقة التي ترغبين بها وأن أحبك بالطريقة التي تحلمين بها وأن أقدم مساعدتي لك في الأوقات التي تكونين بحاجة لي فيها؟ أن أكون عائلتك وتكونين أما لأطفالي؟
أرجعت شعرها خلف أذنها اليمنى قالت ودموع ترقق في عينيها: هل استلزم قول هذا سنتين كاملتين؟
قلت: كنت ستهربين لو تسرعت، ألست محقا؟( أردفت بعد لحظات من الصمت:هل ستسعدينني بقبولك عرضي؟ فأنا حقا أتلهف للعناية بك ولرؤية نظرتك العطوفة تجاهي.
قالت:لا بد إنك غبي... تقول "هل تكونين أم لأطفالي" ولا تريد مني ان اهرب؟
قلت: أنا أكون غبيا عندما يتعلق الأمر بك. وفي الحقيقة خائف أن ترفضيني.
قالت:أنا كنت خائفة من ألا تعترف للأبد.
أرخت قوامها وأمالت رأسها وابتسم فخطوت نحوها بعض خطوات وضممتها قائلا: لقد اعترفت منذ مدة لا بأس بها.
قالت:اعترفت؟ ( نظرت إلى وجهي وهي بين ذراعي)
قلت والثقة تملؤني: مؤكد.  (طبعت قبلة على جبنيها)
 إنها تبادلني نفس المشاعر أي حظ جميل هذا؟
توقعت إن بإمكاني الخلود للنوم براحة أكبر الآن لكن هذا لم يحدث هذا قد يكون قلبي مرتاحا الآن بيدا إن ما يبعث في نفسي القلق ازداد...
سيصبح لدي زوجة وعدتها ان أساعدتها وأسعدها وأحبها وأن أكون عائلتها وأنا على وشك خوض مغامرة تصميم الأزياء .. أنا ماض في طريق لا اعرف نهايته وكيف سيكون إلا إنني سأستمتع بوقتي الآن وسأردد دائما " إن أجمل الأيام هي تلك التي لم نعشها بعد"

النهاية
8/8/2013 الخميس
4:45 صباحا

تعليقات

  1. قصة جميلة ودافئة على القلب , استمري :)

    ردحذف
  2. قصة متميزة وبها عادت سمانا بوهج و تألق الى ساحة الابداع والكتابة...لم اصاب بالسأم ابداً من هذه القصة بل كانت ودودة جداً ومحببة للنفس والقلب وتتيح للقارئ خيالاً واسعاً ...استمري عزيزتي ولا تدعي شيئاً يعيق تقدمك نحو حلمك...فأنت لأجله تعيشين:)

    Lavender

    ردحذف
    الردود
    1. كانت مفاجئة لطيفة بحق ... ﻷنني اعرف رأيك الغالي على قلبي ولم اتوقع ابدا ان تتركي تعليقا
      شكرا لدعمي دائما وتشجيعي بانتقاداتك ومديحك وحرصك على ققراءة جديدي
      هذا يعني لي الكثير.
      نقدك بناء وادبي واطراؤك رقيق ومحبب ....
      شكرا لك على تدقيقك لهذه الرواية فهذه مساعدة كبيرة

      حذف
  3. قصة رائعة و لطيفة جداً ، أبدعتي في سرد الأحداث .
    ما أجمل أن ينتهي الحب بالزواج ، مع أني أظن بأن الزواج بداية و ليس نهاية
    استمري في الإبداع عزيزتي، و واصلي اتباع أحلامك و طموحاتك ^_^ ♥

    ردحذف
  4. شكرا لك اسعدتني بقراءة روايتي
    معك كل الحق في ان الزواج بداية حكاية من نوع اخر ولكن نأمل احيانا بقراءة قصة تضيف للواقع قليﻻ من السحر

    ردحذف
  5. قصة جميلة.... كانت تبدو طويلة لكن ما ان بدأت بقرأتها حتى انتهت بسرعة ♡♡♡ استمري عزيزتي فهذا مجالك لتبدعي فيه

    ردحذف
  6. ☆☆☆☆☆♥اشكرك من قلبي على قراءة قصتي ........ لقد اسعدتني ^__^

    ردحذف
  7. غير معرف8/09/2016 1:57 ص

    جميله جدا. ......قصه ةلحب رائعه جدا
    استمري في الإبداع ����������

    ردحذف

إرسال تعليق